الامامة الالهية(5) المجلد 4

اشارة

سرشناسه : سند، محمد، - 1340

عنوان و نام پديدآور : الامامه الالهیه/ محاضرات محمد سند؛ جمع و اعداد محمدعلی بحرالعلوم

مشخصات نشر : تهران : فرصاد ، - 1385.

مشخصات ظاهری : ج 3

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرست نویسی براساس اطلاعات فیپا

یادداشت : کتابنامه

موضوع : امامت

موضوع : ولایت

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : بحرالعلوم، محمدعلی، 1345 - مقرر

رده بندی کنگره : BP223/س9الف8 1385

رده بندی دیویی : 297/45

شماره کتابشناسی ملی : م 81-28236

الامامة الالهية (4)

تقديم … ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أحد أبواب عبادة اللَّه تعالي نظير الصلاة والصوم والدعاء والذكر ونحوها من أنواع وأجناس وأصناف العبادات وهو التوسّل إليه تعالي بأصفيائه وبالذين أخلصهم بقرباه.

فإن التوسّل إليه بهم، نحو زلفي وقربي إليه تعالي، فإن المتوسل يعطف بزمام قلبه إلي وجه اللَّه تعالي، وإن كان «سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَي الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ* قَدْ نَرَي تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ* وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ

أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 6

وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَي كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» «1».

فإن القبلة ليست إلّاوسيلة للتوجه بها إليه تعالي، «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَي الْمَالَ عَلَي حُبِّهِ» «2».

«وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَي وَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «3».

فالقبلة ليست هي المعبود وإنما هي وجهة يتوجّه بها إليه تعالي، ومن ذلك صار آدم صفيّ اللَّه قبلة للملائكة وسجودهم للَّه تعالي في قوله تعالي: «وَإِذ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِادَمَ» «4»

ومن ذلك صارت بيوت موسي كليم اللَّه تعالي قبلة لبني إسرائيل في صلاتهم للَّه تعالي «وَأَوْحَيْنَا إِلَي مُوسَي وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» «5»

ومن ذلك قوله تعالي: «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ» «6»

، «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَي يُوسُفَ آوَي إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 7

ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ* وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَي الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا» «1».

«لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَي وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «2».

وقد روي النسائي والترمذي في حديث الأعرابي أن النبي صلي الله عليه و آله علّمه قول:

«يا محمّد إني توجّهت بك إلي اللَّه» «3».

وروي الترمذي وابن ماجة حديث عثمان بن حُنيف، إن رجلًا ضرير البصر

أتي النبي صلي الله عليه و آله فقال: ادع اللَّه أن يعافيني، فقال النبي صلي الله عليه و آله:

«إن شئت صبرت فهو خير لك، وإن شئت دعوت»، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويدعو بهذا الدعاء: «اللهمّ إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلي ربي في حاجتي ليقضيها، اللهمّ شفّعه فيّ». ورواه النسائي وصححه البيهقي، وزاد: فقام وقد أبصر «4».

ومن ذلك يتبين أن التوجّه بالنبي صلي الله عليه و آله والاستشفاع به والاستعانة به إليه تعالي وتقديمه بين يدي الحاجة إليه تعالي، وتوسيطه هي عناوين موازية للتوسل به صلي الله عليه و آله إلي اللَّه تعالي، وقد قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 8

الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) «1»

، وقال تعالي: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «2».

فأمر بابتغاء الوسيلة إليه تعالي، وقد عيّن تلك الوسيلة وهي التوجّه في الاستغفار والتوبة والأوبة بالرسول صلي الله عليه و آله وأن استغفار النبي صلي الله عليه و آله وتشفعه دخيل في توبة اللَّه تعالي عليهم ورحمته لهم.

وقال تعالي: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيِهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «3»

فجعل دعاء النبي صلي الله عليه و آله لهم دخيل في حصول السكينة والإيمان والطهارة لهم، وقوله تعالي: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ» «4»

، وهذا نظير ما قاله تعالي في قصّة اخوة يوسف عليه السلام «قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ* قَالَ لَاتَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ

أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» «5»

وقوله تعالي: «قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ* قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «6»

، وقوله تعالي في شأن قوم موسي عليه السلام: «فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ» «7»

، وقوله تعالي في شأن قوم فرعون مع النبيّ موسي عليه السلام: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَي ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 9

عِنْدَكَ» «1»

، وقوله تعالي في شأن النبيّ عيسي عليه السلام: «اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» «2»

، وقوله تعالي في شأن النبيّ موسي عليه السلام:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَي فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا» «3».

والوجيه في اللغة والمعني هو ذو الحظوة والقرب مما يتوجّه به إلي اللَّه تعالي ويتوسّل به إليه.

وقال اللَّه تعالي: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَي» «4»

، المفسَّر بمقام الوسيلة والشفاعة، كما في الدعاء المأثور «اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً صلي الله عليه و آله الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته وارزقني شفاعته يوم القيامة».

ومن ذلك ينجلي أن الإيمان بمقام الشفاعة له صلي الله عليه و آله يلازم الايمان بالتوسل، لأن التوسّل به صلي الله عليه و آله ينطوي علي تشفّعه بقضاء الحاجة لديه تعالي، فالاعتقاد بالشفاعة دليل رجحان التوسّل «لَايَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَي» «5»

، «لَايَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا» «6»

، فإذنه تعالي في الشفاعة متطابق مع أمره تعالي، «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» «7»

، أي بالتوسل إليه تعالي بالوسائل الشافعة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 10

لديه، فالتوسل والاستشفاع به صلي الله عليه و آله إلي اللَّه هو دعاؤه تعالي، والوسائل التي أذن تعالي أن

يدعي بها هي أبواب لدعوته جلّ وعلا، لا دعوة من دونه.

وروي الحاكم في مستدركه أن آدم لما اقترف الخطيئة قال: يا ربي أسألك بحق محمّد صلي الله عليه و آله لمّا غفرت لي، فقال: يا آدم كيف عرفت؟ قال: لأنك لما خلقتني نظرت إلي العرش فوجدت مكتوباً فيه: لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه، فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك، فعرفته أحبّ الخلق إليك «1».

وروي البخاري، عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا أقحط الناس استسقي بالعباس فقال: اللهم إنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبيك، ونستشفع إليك بشيبته، فسُقوا. «2»

وروي أحمد بن حنبل أن عائشة قال لها مسروق: سألتك بصاحب هذا القبر ما الذي سمعت من رسول اللَّه؟ يعني في حق الخوارج قالت: سمعته يقول: إنهم شرّ الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند اللَّه وسيلة. «3»

وروي في كنز العمال عن عليّ عليه السلام أن يهودياً جاء إلي النبيّ صلي الله عليه و آله فقام بين يديه وجعل يحدّ النظر إليه، فقال: يا يهودي ما حاجتك؟ فقال: أنت أفضل أم موسي؟

فقال: له: إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه، ولكن قال اللَّه تعالي: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» «4»

، إن آدم لما أصابته خطيئته التي تاب منها كانت توبته: «اللهمّ اني

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 11

أسألك بمحمد وآل محمد لمّا غفرت لي»، فغفر له. «1» ويشير صلي الله عليه و آله إلي قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «2».

وقد أطلق القرآن الكلمة علي المقربين عنده تعالي، كما في قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ» «3»

، وقال تعالي: «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ

بِيَحْيَي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» «4».

وكيف لا يكون آل محمد عليه السلام وسائل الدعاء إلي اللَّه تعالي وقد حباهم اللَّه تعالي بالزلفي، واجتباهم وحظاهم بأنعمه الخاصة، وجعلهم السبيل إليه تعالي، فقال: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي) «5»، وقال: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» «6»

، وقال: «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلًا» «7».

فمودّتهم سبيل إليه، وهم الوسيله للتوجه إليه تعالي، وقد أبان قربهم إليه من بين الأمة ومزيد عنايته بهم، حيث قال: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «8».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 12

ثم لا يخفي أن التوسّل والاستشفاع بالمقربين إلي الباري تعالي، هو من آداب الدعاء والتوجّه إلي الحضرة الإلهية، فإننا كما نتوجه بجسمنا في الصلاة إلي المسجد الحرام والكعبة بقصد التوجّه الحقيقي بقلوبنا إلي اللَّه تعالي، فليست الكعبة إلّاوسيلة للتوجه إليه تعالي، ومن شرائط عبادته تعالي، فهذا يفصح عن دور الوسيلة والوسائل في التوجّه والدعاء، مع أن الشأن أينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه، لكن ذلك لا ينفي خصيصة المسجد الحرام والكعبة المشرّفة، ألا تري أن الباري تعالي جعل آدم صلي الله عليه و آله قبلة لسجود الملائكة مع كون السجود هو للَّه تعالي، ولم يقبل من إبليس اللعين السجود للَّه تعالي من دون أن يتّخذ آدم قبلة يتّجه بها إليه تعالي، وكرّر تعالي هذه الواقعة في سبع سور قرآنية، كل ذلك لأجل أن يبين تعالي أن من آداب عبادته تعالي ودعائه التوجّه إليه بأوليائه المقربين، وأن هذا الأدب اللازم هو نمط من التعظيم للَّه تعالي، كما هو الشأن في الكعبة المشرّفة والبيت الحرام، فقد جعل تعالي لهما حرمة وتقديس، وجعل

حرمتهما وتعظيمهما من حرمته وتعظيمه، وقال تعالي: «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ» «1».

ولا يخفي علي الفطن اللبيب أن مقتضي قوله تعالي: «قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَي الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ* قَدْ نَرَي تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 13

وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ* وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا» «1».

وقوله تعالي: «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» «2».

إن فعله تعالي وخلقته وجهاً وآية له تعالي، فإن مخلوقية ما في الشرق وما في الغرب، أي ما في الكون أجمع آيات تتجه بالمتدبّر فيها إلي اللَّه تعالي، فهي وجه له تعالي، والقبلة ما يقابل عند الاتجاه، وتولية الوجه جهة القبلة المقابلة بما هي رمز لوجهه تعالي، فكأنا نستقبل بتولية وجوهنا تجاه القبلة وجهه تعالي، إذ الاستقبال والمقابلة إنما تحصل بتوجه المستقبِل بالكسر بوجهه تجاه وجه المستقبَل بالفتح-

فآياته الكبري سبحانه وجه له تعالي، وكذلك كلماته التامات هي آياته، وهي وجهة له تعالي يتجه بها إليه، كما مرّ أن النبيّ عيسي عليه السلام كلمته وآيته «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» «3»

، كما وصف بذلك النبيّ موسي عليه السلام «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَي فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 14

وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا» «1»

. فوجهه تعالي ليس ما يذهب إليه المجسمة الزائغة عن التوحيد من اثبات الجسم والأعضاء، تعالي اللَّه عن ما يقوله الظالمون علواً كبيراً، بل هو آيات خلقته التامة الدالة علي عظمته وكماله.

وإن التوجّه إلي أشرف مخلوقاته هو تولية لشطر الوجه نحو وجهه الكريم، وفي رواية الصدوق في أماليه في قصّة الشاب النبّاش للقبور، حيث كان يبكي علي شبابه بكاء الثكلي علي ولدها واقفاً علي باب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فأُدخل فسلّم فردّ صلي الله عليه و آله، ثم قال: ما يبكيك يا شاب؟ قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً إن أخذني اللَّه عزّ وجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم ولا أراني إلّاسيأخذني بها، ولا يغفر لي أبداً، فأخذ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يسائله عن نوع معصيته، هل هي الشرك أو قتل النفس أو غيرها، إلي أن أقرّ الشاب بجنايته، فتنفّر نبي الرحمة من فظاعة جرمه، فذهب الشاب إلي جبال المدينة وتعبّد فيها، ولبس المسوخ، وغلّ يديه جميعاً إلي عنقه ونادي: يا ربّ، هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول، يا رب، أنت الذي تعرفني، وزلّ مني ما تعلم يا سيدي، يا رب، إني أصبحت من

النادمين، وأتيت نبيّك تائباً فطردني وزادني خوفاً، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيب رجائي سيدي، ولا تبطل دعائي، ولا تقنطني من رحمتك، فلم يزل يقول ذلك أربعون يوماً وليلة، وتبكي له السباع والوحوش، فأنزل اللَّه تبارك وتعالي علي نبيه صلي الله عليه و آله آية في توبته «الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» «2»

،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 15

ويقول عزّ وجلّ: أتاك عبدي يا محمد تائباً فطردته فأين يذهب وإلي من يقصد، ومن يسأل أن يغفر له ذنباً غيري، ثم قال عزّ وجلّ: «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَي مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ» «1».

فجعل الباري الإتيان إلي نبيه وقصده إتيان إلي بابه تعالي وقصد إليه، ومن ثم قال تعالي في آية أخري: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «2».

اللهمّ إنا نسألك ونتوجّه إليك بنبيك نبي الرحمة، وإمام الهدي، وآله المطهّرين الذين أذهبت عنهم الرجس، وافترضت علينا مودتهم في كتابك، صلواتك عليه وآله، يا رسول اللَّه، يا رسول اللَّه، إنّا توجّهنا واستشفعنا بكم إلي اللَّه، فاشفعوا لنا عند اللَّه، فإنكم وسيلتنا إلي اللَّه، وبحبّكم نرجو النجاة، فكونوا عند اللَّه رجانا. عشّ آل محمّد عليهم السلام/ 1426 ه

محمّد سند

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 17

المقدمة: … ص: 17

الحمد للَّه ربّ العالمين والصلاة والسلام علي النبي الأكرم صلي الله عليه و آله و سلم وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

إن هذا الكتاب يعدّ محاولة جادّة لدراسة عقيدة التوسّل ونظرية التوسيط، التي كانت ولا زالت مثار جدل ديني وبشري دائر بين ثنائية القبول والجحود.

والذي

يطالع المسيرة التاريخية لهذه المسألة جيّداً يجد أن الفكر البشري- الذي خاض صراعاً مريراً بين قوي الشرّ المتمثلة بالطغاة والجبابرة المستكبرين وبين قوي الخير التي قاد مسيرتها الأنبياء والأوصياء المصلحين آمن واعتقد بكافة أطيافه ومكوناته بضرورة التوسّل، وهكذا اتخذت البشرية لنفسها وسائط تربطها بربّها العلي العظيم، الذي لا يمكن الارتباط به ارتباطاً جسمانياً حسّياً ولا مواجهته مواجهة نفسية أو عقلية لعلوّه وعظمته تبارك وتعالي ولكن وللأسف نري أن القرآن الكريم بعد أن أرّخ تلك الملحمة صرّح بأن البشرية حادت عن طريق الصواب عندما حكّمت إرادتها علي الإرادة الإلهية والسلطان الإلهي، فأخطأت الأفراد والمصاديق الحقيقية لمتعلّق تلك العقيدة الفطرية، حيث آمنت تحكيماً لسلطانها بوسائل ووسائط موهومة اقترحتها من لدن ذاتها، محكّمة في ذلك هواها علي سلطان الربّ وإرادته.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 18

قال تعالي: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الْأَنْفُسُ» النجم: 23.

وفي الوقت ذاته نجد أن الآيات القرآنية كما سيتضح في فصول الكتاب- أكّدت ودعت وألزمت الخلق باتخاذ الوسائط الإلهية والآيات البينات والعلامات الشارعات والحجج الباسقات التي نصبها اللَّه عزّوجلّ لمخلوقاته وأمرهم بالتمسّك والتوسّل والتوجّه بها واللواذ واللجوء إليها والارتماء في أحضانها وحضرتها المشرّفة، من أجل التوصّل إلي بصيص عظمة اللَّه تعالي ونيل القرب منه وقبول وتحقّق العقيدة الصحيحة وارتفاعها بالعمل وتفتّح أبواب السماء لها بالآيات والحجج.

ولكن مع ذلك كلّه يُلاحظ أن كلاماً من هنا وهناك قد يطلقه بعض مَن لم يدرك حقيقة الأمر تقنيعاً لجحوده وتشويهاً لعقيدة التوسّل، حيث نجد أن أفراداً عندما جحدوا تلك العقيدة حاولوا أن يلصقوا تهمة الشرك وعبادة غير اللَّه تعالي بالمسلمين الذين آمنوا بعقيدة التوسّل وتعاطوا الوسائط

وتوجّهوا إلي اللَّه تعالي بآياته وحججه الكبري في عقيدتهم ودعائهم وعباداتهم.

ثمّ تفاقم الأمر حتي بلغ الحال ببعضهم أن حكم بكفر طوائف من المسلمين واستحلّ دماءهم لتوسّلهم وتوجّههم واستجارتهم بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه في الأرض.

واستمرت مسيرة الانحرف المقنّعة بشعارات التكفير حتي اتخذت لنفسها أثواباً جديدة تتناسب ومتطلبات العصر، حيث وصفوا عقيدة التوسّل بالتسوّل والاستجداء، وقالوا إن التوسّل بالأنبياء والرسل والأوصياء صنمية

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 19

وغلوّ في الأشخاص، وقد تناسوا أن هذه مقالة إبليس عندما أبي واستكبر بنفسه عن السجود إلي خليفة اللَّه وجعْله واسطة في نيل رضا الربّ عزّوجلّ، وأصبح بذلك مذموماً مدحوراً مطروداً عن ساحة الرحمة الإلهية.

خطّة البحث: … ص: 19

لا يخفي علي القارئ الكريم أن هذا الكتاب هو مجموع الأبحاث التي ألقاها علي جمع من طلبة العلم سماحة الاستاذ المحقّق آية اللَّه الشيخ محمّد السند، حيث قام بتسليط الضوء علي عقيدة التوسّل وبيان مساحتها ودائرتها ومنزلتها ودورها في منظومة العقيدة الإسلامية علي ضوء البيانات القرآنية المعتضدة بالعقل والسنّة النبويّة ومنهاج أهل البيت عليهم السلام.

وقد وفّقني اللَّه تعالي لتقرير هذه الأبحاث القيّمة فجاءت علي أربعة فصول وخاتمة.

أما الفصل الأول: فقد تركّز البحث فيه علي بيان حقيقة التوسّل في اللغة والاصطلاح، ثم إعطاء التصورات الصحيحة حول عقيدة التوسّل ودور الوسائط والوسائل والتوجّه إليها والتوسّل بها في العقيدة التوحيدية، وبعد ذلك تمّ التعرّض للأدلّة العقلية والتحليلية والتاريخية التي تنصّ علي ضرورة التوسّل بحسب الدائرة الكونية والأدبيات الدينية وتأريخ الأديان وأعراف العقلاء وشرعياتهم.

وأما الفصل الثاني: فقد تمحور البحث فيه علي الأدلّة والآيات القرآنية التي نصّت علي التشريع الإلهي لعقيدة التوسّل، حيث ميّزت الآيات القرآنية الوسائط والوسائل المستنكرة عن غيرها، وإن الشرك بالتوجّه إلي الوسيلة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 20

المقترحة والمخترعة من سلطان

العبد ذاته، وأن التوحيد التامّ بالتوسّل والتوجّه إلي آيات اللَّه وحججه التي أمر العباد باتخاذها وسيلة، والإعراض عن هذه الوسائط والاستكبار والصدّ عنها غلق لأبواب السماء وحبط للأعمال وطرد وإبعاد عن رحمة اللَّه تعالي.

وأما الفصل الثالث: فقد تمّ التعرّض فيه إلي ضرورة وشرطية ولا بدّية التوسّل في صحة العقيدة وسائر العبادات وكذا شرط في نيل المقامات الإلهية والمنح الربّانية، واستدللنا علي ذلك بالآيات الصريحة التي تنصّ علي أن التوسّل والتوجّه بالحجج الإلهية ليس أمراً راجحاً بيد العبد فعله أو تركه، بل هو أمر حتمي وضروري لابدّ منه، ومن دونه تكون أبواب السماء مقفلة بوجه العقيدة والعبادة ونيل المقامات ودرجات القرب.

وفي الفصل الرابع: تم التعرّض لأهم الشبهات التي ذُكرت حول التوسّل مع الإجابة عنها.

وأما في الخاتمة: فقد ذكرنا بعض الروايات التي وردت في مجامع أهل سنة الجماعة، التي تنصّ علي مشروعية التوسّل وضرورته، وكذا ذكرنا بعض كلمات أعلام السنّة حول التوسّل.

وختاماً أتوجّه إلي اللَّه عزّوجلّ بنبيه الأكرم صلي الله عليه و آله و سلم وأهل بيته الطاهرين أن يحفظ شيخنا الاستاذ وأن يتقبّل منه ومنّا هذه البضاعة إنه نعم المولي ونعم النصير.

الشيخ قيصر التميمي

25/ ذي القعدة/ 1426 ه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 21

الفصل الأوّل … ص: 21

اشارة

1- تمهيد 2- التوسّل في اللغة والاصطلاح 3- التوسّل عبادة توحيدية 4- الأدلّة العقلية والتاريخية 5- الأدلّة التحليلية

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 23

تمهيد … ص: 23

إنّ مبدأ التوسّل والدعاء وطلب الشفاعة والاستغاثة بالنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام من المبادئ الأصيلة والأساسية في الدين التي دلّ علي مشروعيتها وضرورتها صريح العقل والقرآن الكريم وروايات المعصومين عليهم السلام.

ولقد آمن بهذه العقيدة في الإسلام عموم المسلمين بكافّة فرقهم وطوائفهم، حيث أن سيرتهم جارية علي اللجوء إلي ساحة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

ولكن حاول البعض تبعاً لمنهج الجحود والجاحدين بذريعة وغطاء وقناع التكفير والمكفّرين- أن يُلصق تهمة الشرك والكفر بهذه العقيدة الإسلامية، حيث تحايل لجحوده بأن ادّعي أن التوسّل من أصناف الشرك في العبادة، وزعم أن الآيات والروايات دالّة علي ذلك.

ونحن قبل الشروع في ذكر ما استعرضوه من أدلّة وشبهات والإجابة عنها، لابدّ من بيان ما هو الحقّ في المسألة، وذلك عن طريق إعطاء التصوّرات

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 24

الصحيحة والبراهين القاطعة الدالّة علي مشروعية بل ضرورة التوسّل بأصفياء اللَّه تعالي، لأجل نيل القرب منه عزّ وجلّ وقبول الطاعات والعبادات وفتح أبواب السماء لاستجابة الدعاء وقضاء الحاجات، وأن المنكرين والجاحدين للتوسّل بأولياء اللَّه يجعلون التوسّل بهم من التوجّه إلي غير اللَّه تعالي ليفرّقوا بين اللَّه ورسله قال تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا* أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا» «1».

وذلك كلّه استناداً إلي الأدلّة العقلية والتحليلية والتاريخية والقرآنية والروائية الناصّة علي ذلك.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 25

***

التوسّل في اللغة والاصطلاح … ص: 25

1- التوسّل لغة: … ص: 25

قال الفراهيدي في كتابه اللغوي «العين»:

وسل: وسّلت إلي ربّي وسيلة، أي عملت عملًا أتقرّب به إليه، وتوسّلت إلي فلان بكتاب أو قرابة، أي تقرّبت إليه «1».

وقال الجوهري في الصحاح:

الوسيلة: ما يتقرّب به

إلي الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسّل واحد، يقال: وسّل فلان إلي ربّه وسيلة وتوسّل إليه بوسيلة، أي تقرّب إليه بعمل «2».

ومثله ما في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير «3».

وقال ابن منظور في لسان العرب:

الوسيلة: المنزلة عند الملك، والوسيلة: الدرجة، والوسيلة القربة، ووسّل فلان إلي اللَّه وسيلة إذا عمل عملًا تقرّب به إليه، والواسل الراغب إلي اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 26

وتوسّل إليه بوسيلة إذا تقرّب إليه بعمل.

والوسيلة الوصلة والقربي، وجمعها الوسائل «1».

والذي يتحصّل من كلمات اللغويين أن التوسّل والوسيلة:

هي ما يجعله العبد من الواسطة بينه وبين ربّه لأجل التوصّل بها إلي تحصيل المقصود وهو القرب منه عزّ وجلّ، أو مطلق ما يوسّطه الشخص للتقرّب به إلي الغير من عمل أو كتاب أو قرابة أو غيرها.

2- التوسّل اصطلاحا: … ص: 26

التوسّل في الاصطلاح قريب جدّاً من المعني اللغوي، بل هو عينه والاختلاف في تحديد المصاديق التي نصبها اللَّه تعالي للتوسّل والتقرّب بها إليه عزّ وجلّ.

وسيأتي مزيد إيضاح لبيان حقيقة التوسّل اصطلاحاً عند استعراض الأدلّة القرآنية حول التوسّل في الفصل اللّاحق.

***

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 27

التوسّل عبادة توحيدية … ص: 27

دور الوسائط الإلهيّة وضرورة التوسّل بها: … ص: 27

إنّ الحقيقة التي نريد أن ندّعيها تحت هذا العنوان، هي: إن نفي الوسائل والوسائط الإلهيّة والإعراض عنها في حال توجّه العبد إلي اللَّه هو الشرك بعينه.

وإنّ توسّل العبد بالآيات الإلهيّة وتوجّهه وتشفّعه بالوسائط، التي نصبها اللَّه عزّ وجلّ من أجل قضاء حوائجه أو قبول توبته وأوبته وعبادته ونيله للحظوة والقرب من اللَّه تعالي، هو التوحيد الحقيقي والتام المرضي عند اللَّه عزّ وجلّ.

توضيح المدّعي: … ص: 27

من أجل إعطاء تصوّرات صحيحة حول ما ادّعيناه آنفاً نقول: إن الوسائل والوسائط إذا كانت مجعولة ومنصوبة من قبل اللَّه عزّ وجلّ، فإن التوسّل والتوجّه بها واللجوء إليها والاستغاثة والاستجارة بها إلي اللَّه تعالي هو التوحيد التام، وفي الوقت ذاته يكون الإعراض عنها والاستكبار عليها والتوجّه إلي اللَّه تعالي بالمباشرة شركاً واستكباراً علي اللَّه عزّ وجلّ ومبارزة له في سلطانه.

وأما إذا لم تكن تلك الوسائط مجعولة ولا منصوبة من قبل اللَّه تعالي، فإن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 28

التوسّل بها والتزلّف إلي اللَّه عن طريقها يكون شركاً وصنمية ووثنية وعبادة لغير اللَّه تعالي، سواء كان صنماً قرشياً في الجاهلية أو وثناً عصرياً.

بيان الأدلّة: … ص: 28

ولهذه الدعوي التي ذكرناها أدلّتها المتنوعة، ونحاول أن نشير في هذا الفصل إلي الأدلّة العقلية والتاريخية والتحليلية، وأما الأدلّة القرآنية فسيأتي ذكرها في الفصل اللّاحق.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 29

الأدلّة العقلية والتاريخية … ص: 28

1- الدليل العقلي: … ص: 29
اشارة

هنالك بيانات متعدّدة للدليل العقلي الدالّ علي مشروعيّة وضرورة التوسّل، نستعرض فيما يلي بعض تلك البيانات العقلية:

البيان الأول: (التوسّل بالوسائط الإلهيّة تحكيم لسلطان اللَّه علي سلطان العبد) … ص: 29

إنّ نصب الوسائط والأبواب من قبل المخلوقين والعبيد باقتراحهم واختراعهم يُعدّ تصرّفاً في سلطان اللَّه عزّ وجلّ، ونوع من تحكيم إرادة العبد وهواه علي إرادة ربّه، ويكون هذا الفعل من العبد شركاً ونديّة ووثنية جاهليّة.

فالعبد هو الذي ينادد ربّه في جعله الوسائط واختراعها، سواء من ناحية العمل كاتّخاذ الأحجار والأصنام وجعلها واسطة بين العبيد وبين ربّهم، أم كان من ناحية الفكر والمعتقد وذلك كاتّخاذ العقل الذاتي البشري ربّاً وزعم عدم محدوديته وأنّه يتّسع في الحكم والبتّ في الحقائق بلغ ما بلغ، فإن هكذا توسيط من قبل البشر وباقتراحهم يُعدّ مغالاة وشركاً في سلطان اللَّه؛ لأنّها تكون مناددة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 30

للَّه تعالي وصنميّة للعقل، بدعوي (إن الحكم إلّاللعقل).

فمن يجعل لنفسه وسيطاً لم ينصبه اللَّه عزّ وجلّ ولم يأذن به فهذه هي الصنمية، والتزلّف والتقرّب بتلك الوسائط غير المأذون بها هو الشرك الناقض للإيمان، لأنّه منازعة للَّه تعالي في سلطانه، سواء كانت أصنام العرب أم غيرها من الجهالات والجاهليات الحديثة.

وأما التوسّل والتوجّه بالوسائط التي جعلها اللَّه عزّ وجلّ ونصبها لخلقه فهو التوحيد التامّ، والإعراض عن تلك الحجج والأبواب الإلهيّة التي نصبها اللَّه عزّ وجلّ وترك التوجّه إليها هو الشرك الناقض للإيمان أيضاً؛ لأنّه استكبار علي إرادة اللَّه تعالي وسلطانه.

فالتوحيد التامّ إنما يكون بالانصياع والخضوع أمام الأبواب والوسائط التي جعلها اللَّه عزّ وجلّ، وذلك بالتوسّل بها وتوسيطها بين العبد وربّه.

والسرّ في شرك المشركين والإنكار الإلهي لعقيدتهم الصنمية ليس لأصل شعورهم بالحاجة إلي الوسائل والوسائط والشفعاء، بل كان شركهم في اقتراحهم الوسائط والتدخّل في سلطان اللَّه تعالي وتحكيم إرادتهم وسلطانهم، من دون

الانصياع والطوعانية لإرادة اللَّه عزّ وجلّ.

فمصبّ إنكار الباري تعالي عليهم ليس هو إنكار نظرية ضرورة الوسائط، بل في كون الوسائط مقترحة من قبلهم.

والقرآن الكريم أيضاً كما سيأتي- لا يستنكر علي المشركين نظرية ومقالة الأبواب والوسائط، بل علي العكس؛ إذ القرآن يقرّها ويثبتها، وإنما تخطئته للمشركين بالصنميّة في اقتراحهم الوسائط والوسائل من قبل أنفسهم، ويحتّم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 31

علي المشركين أن تكون الوسائط بسلطان الربّ وإرادته.

والقرآن الكريم كما سيأتي أيضاً- يقرّر نظرية الوسائط بأنها أمر فطري وضروري لابدّ منه.

وبعبارة اخري: لا يكفي في نفي الشرك وتحقّق التوحيد التام من العبد نفيه الوسائط المخترعة والمقترحة من قبل البشر، بل عليه أن يتوسّل بالوسائل والحجج التي نصبها اللَّه عزّ وجلّ؛ وذلك لأن من يقف عند إنكار الوسائط المقترحة فقط كمن قال: (لا إله) وسكت من دون أن يذكر المستثني، حيث أنه يوجب الكفر لا التوحيد.

خصوصاً وأن كلمة (لا إله إلّااللَّه) ليست كلمة للتوحيد في الذات والصفات والأفعال فحسب، وإنما هي توحيد أيضاً في مقام العبادة والخضوع والتوجّه والدعاء، فلا عبادة ولا خضوع ولا توجّه إلّاللَّه تعالي، ومعني ذلك نفي الوسائط والشفعاء الذين لم يأذن بهم الباري تعالي، فلا إله ولا وله ولا تشفّع ولا تقرّب إلّابما أثبته اللَّه تعالي، ولا يكفي نفي ونبذ الوسائط المقترحة، بل لابدّ من إثبات الوسائط التي جعلها ونصبها اللَّه عزّ وجلّ.

والنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والمعصومون عليهم السلام وسائط وأبواب منصوبة من قبل اللَّه تعالي.

والحاصل: إن الشريعة الإسلامية جاءت لنبذ الصنمية القديمة منها والحديثة والمغالاة في الأشخاص الذين لم ينصبهم اللَّه تعالي والتوجّه إليهم.

وأما من نصبهم اللَّه عزّ وجلّ وجعلهم وسائط وأبواب، فلابدّ من التوجّه إليهم والتوسّل بهم والانشداد إليهم؛ لأن التوجّه

والانشداد إلي الآيات

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 32

والعلامات إنشداد وتوجّه إلي من له الآيات، وكلّما تنمّر الشخص في الانشداد إليهم وأخلص في الولاء لهم كلما ازداد توحيده وازداد ولاؤه وانشداده إلي اللَّه تعالي، والعكس بالعكس، نظراً لشدّة قربهم إلي الباري، فالاقتراب منهم اقتراب منه والابتعاد عنهم ابتعاد عنه تعالي، فإن الآية والعلامة كلّما كانت كبيرة وعظيمة في حكاية ذي الآية فهي نظير المرآة الشديدة زيادة في المعرفة لهوية الحقيقة التي تحكيها المرآة؛ لأنّ طبيعة المرآة والآية عبورية واستطراقية توصّل إلي الحقيقة، والإيصال صفة ذاتية لها لا تنفكّ عنها، وهذه خاصية الآيات والوسائل المنصوبة من قبله تعالي.

البيان الثاني: الاختلاف في المراتب الوجودية … ص: 32

وهو بيان عقلي فطري استند إليه آدم عليه السلام في توسّله إلي اللَّه عزّ وجلّ بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله؛ لكونه أحبّ الخلق إلي اللَّه تعالي، وكذلك استند إليه إبراهيم عليه السلام في استغفاره لعمّه آزر، وهو الحفاوة والحظوة والزلفي عند اللَّه تعالي.

بيان ذلك: هناك ضرورة عقليّة ذكرها الفلاسفة، وهي أن اللَّه تعالي وإن كان هو الخالق لكلّ شي ء ولا خالق سواه، ولكن إيجاد المخلوقات من قبله تعالي ليس علي رتبة واحدة، بل هي ذات مراتب متعدّدة مشكّكة، وهذه ضرورة لابدّ منها، وليس ذلك لعجز في قدرة الباري، تعالي عن ذلك علواً كبيراً؛ إذ هو علي كلّ شي ء قدير، وإنما النقص والعجز في طرف القابل والمخلوق؛ وذلك لأنّ شيئيّة الأشياء لا تتقرّر ولا يمكن أن تفرض متحقّقة إلّابعد إمكانها، فمع عدم إمكانها لا شيئيّة لها، والموجودات والمخلوقات النازلة في الرتبة الوجودية،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 33

كالموجودات المادّية مثلًا أو البرزخية، لابدّ لها من سلسلة إعدادات ومخلوقات سابقة، تكون مجاري فيض اللَّه عزّ وجلّ، والمخلوق السابق في الرتبة الوجودية يكون

سبباً لتقرّر إمكان المخلوق اللّاحق، وليس ذلك إلّالعجز القابل والمخلوق النازل في الرتبة عن التلقّي من اللَّه تعالي بالمباشرة، فلابدّ له من واسطة ومجريً في الفيض الإلهي لأصل ذاته وكمال صفاته؛ ولذا الانسان ببدنه المادّي مثلًا لا يتقرّر له إمكان إلّابعد خلق المعدّات له وتسخير الأرض والسماء والماء والهواء والمخلوقات الحيّة وغيرها، ففي الخلقة المادية توجد إعدادات كثيرة أعدّها اللَّه تعالي وسخّرها للانسان، لكي يعيش حياة ممكنة في هذا الكون، قال تعالي: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ» «1».

ومن هنا ورد من طرق الفريقين أن أوّل ما خلق اللَّه تعالي العقل، أو أوّل ما خلق اللَّه تعالي نور النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله «2»، ولا تنافي بينهما.

وورد أيضاً أن اللَّه تعالي أبي أن يُجري الأمور إلّابأسبابها «3»، فسنّة الخلقة في هذا العالم الإمكاني عن طريق الأسباب والمسبّبات، بجعل المخلوق السابق سبباً لأن يخلق اللَّه تعالي المخلوق اللّاحق بنحو التقدّم والتأخّر الرتبي.

ولا شك أن التقدّم في الرتبة الوجودية بين المخلوقات معناه أن المخلوق الأسبق رتبة أشرف وأكرم وأقرب إلي اللَّه تعالي من المخلوق اللّاحق، وهو مجري سيب الباري عزّ وجلّ إليه، وسبب لتفتّح أبواب السماء لتلقّي الفيض.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 34

إذن أصل فكرة الوساطة والسببية والوسيلة سنّة إلهية تكوينية سنّها اللَّه عزّ وجلّ في خلقة الممكنات، وحينئذٍ نقول: إنه مما اتفقت عليه طوائف المسلمين وفرقها أن السنّة التشريعية لا تخالف السنّة التكوينية، فالشريعة تتناسب وتتلاءم مع الخلقة والفطرة التكوينية، كما قال تعالي: «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» «1».

وهذا بيان عقلي واضح دالّ علي ضرورة التوجّه والتوسّل بالمقرّبين وبالمخلوقات الكريمة علي اللَّه تعالي، وهذه هي الحفاوة التي استند

إليها آدم وإبراهيم عليهما السلام في استغفارهما إلي اللَّه تعالي.

وبعبارة أخري: إن من المعاني والحقائق الذاتية للقرب والمقرَّب أن الاقتراب إلي المقرَّب (بالفتح) يُقرِّب؛ لأنّه مقتضي قربه، كما أن الابتعاد عنه ابتعاد عمّن هو قريب إليه بمقتضي قربه أيضاً، وهذه القاعدة غير مختصّة بالقرب والبعد المكاني، بل هي مطّردة في كلّ أنماط القرب والبعد علي الصعيد المعنوي، من كمالات الوجود من العلم والقدرة والحياة والنور، وعلي ضوء ذلك يكون بيان الشرع لكون شي ء مقرّب هو بنفسه تحضيضاً وتشريعاً للتوسّل به والتقرّب إلي اللَّه بالتوجّه إليه، وهذه الدلالة بديهية فطرية يدركها عامّة البشر بفطرتهم، فإن إعطاء المالك وذو القدرة والعظمة والعزّة لشي ء القرب واتخاذه مقرّباً يلازم إعطاءه مقام الشفاعة، فيلازم الإذن بالاستشفاع والتوسّل به، كما أن إنكار الإذن بالتوسّل والاستشفاع به إنكاراً لكونه مقرّباً، وبالتالي يستلزم الإنكار تكذيب المالك والاعتراض عليه في اتخاذه ذلك الشي ء مقرّباً، وكذلك الحال

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 35

فيما إذا أخبر من له السلطان والقدرة بأن شخصاً وجيهاً عنده، أي ذو حظوة وزلفي لديه وحبيباً له، فإنه إذن وإعطاء المقام الشفاعة له، ويلازم الإذن بالاستشفاع والتوسّل به، فجحود التوسّل به جحود لوجاهته وزلفاه.

البيان الثالث: وجوب الاحترام والتعظيم … ص: 35

وهو أيضاً شرح وبيان للحفاوة والأقربية ومعتمد علي أصول فطرية جبلّية، وذلك أن الأسلوب الجاري والمتّبَع في شرعيّات البشر وأعرافهم وآدابهم العقلائية والاجتماعية عند بعضهم البعض، هو أن طريقة الوفود علي شخص يجب أن تكون بالاستئذان من الباب والحُجّاب والشفعاء والوسائل التي تؤدّي إليه، وأن يكون ذلك بمنتهي الأدب والاحترام.

وبعبارة اخري: إن الشخص عندما يتوسّل بشخص آخر للدخول علي عظيم يُعدّ نوعاً من أنواع الاحترام والتعظيم والتأدّب، وزيادة في إبداء الحرمة والاحترام، فأنت مثلًا عندما تتّخذ المقدّمات والاجراءات اللّازمة وتأتي

عن طريق الحُجب والأبواب صيانة لحرمة مَنْ تفد عليه، فإن في ذلك مزيد الأدب والاحترام وإن لم يكن ذلك الطرف محجوباً في نفسه، ولو لم تُراع تلك الاجراءات فكأنك تكون قد هتكت حريمه.

وقد ذمّ اللَّه عزّ وجلّ الذين ينادون النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله من وراء الحجرات، وأمر بإتيان البيوت من أبوابها، وأن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتي يستأذنوا فيُؤذَن لهم.

قال تعالي: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَي وَاْتُوا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 36

الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1».

وقال أيضاً عزّ وجلّ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّي تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَي أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» «2».

وقال تبارك وتعالي: «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ» «3».

وجاء في الحديث عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «أنا مدينة العلم وأنت يا عليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» «4».

ونجد أن هذا الأدب الإلهي قد قرّره الشارع المقدّس في الوفود علي بيت اللَّه الحرام، فجعل الإحرام مقدّمة للتهيّؤ وباباً للتعظيم.

لا يقال: أن الجاري في هذه الأعراف أمور متواضع عليها ولا ربط لها بالحقائق.

فإنه يقال: إن من المقرّر في محلّه أن الاعتبارات العقلائية ليست أموراً جزافية، بل لها مناشئ حقيقية ورابطة تكوينية، وقد أمضي اللَّه تعالي تلك الاعتبارات.

ثم إن اللَّه عزّ وجلّ نصب أبواباً ووجهاء مقرّبين يتوجّه بهم إليه من باب التأدّب مع اللَّه تعالي، ولذا عندما يريد الشخص المسلم أن يطلب حاجته من اللَّه تعالي في الدعاء وفي غيره، لابدّ من تقديم الثناء علي اللَّه عزّ وجلّ وشكره

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 37

وحمده، ثم يطلب حاجته بعد ذلك، كما هو

مذكور في كتب الفريقين «1».

وكما جاء ذلك في سورة الحمد، التي يقرؤها الفرد المسلم في اليوم والليلة عشر مرات علي الأقلّ، حيث قُدّم فيها المدح والثناء والشكر والحمد للَّه تعالي، ثم بعد ذلك يطلب المصلّي والقارئ للحمد حاجته من الهداية وعدم الغواية والضلال.

إذن التوسّل بمن يكون وجيهاً عند اللَّه من التأدّب والتعظيم للَّه عزّ وجلّ، والوفود علي اللَّه مباشرة من قبل الأفراد العاديين الذين لا يحرز كون وجوههم مقبولة عند اللَّه تعالي، بل قد يكون مطروداً من ساحة العظمة بسبب ما يقترفه من الذنوب- يعدّ من الكبرياء والجفاء والجفوة مع اللَّه تبارك وتعالي والعتو عليه، وهذا علي خلاف الفطرة التوحيدية، بل إن اللَّه عزّ وجلّ ذمّ الذين يصدّون عن الوسائط ويطلبون الارتباط المباشر بالسماء، بما بيّناه في هذا الوجه، قال تعالي: «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَي رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا» «2».

فنحن المذنبون المقصّرون القاصرون عن نيل المقامات الرفيعة يجب أن لا نطلب الحاجة إلي اللَّه تعالي إلّابعد تقديم المقدّمات، والتوسّل بالمقربين والوجهاء المرضيين عند اللَّه عزّ وجلّ، وهذا هو معني قوله تعالي: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ».

والحاصل: إن التوسّل من مبادئ الأصول الفطرية والأخلاقية، وهو مقتضي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 38

التواضع والخضوع في التوجّه والوفود علي اللَّه تعالي، وفيه زيادة ورفعة في التوحيد؛ لأنّ التواضع حالة توحيدية خالصة، ورفض التوسّل استكبار ورعونة لا تناسب الأدب التوحيدي، ويستنكره العقل ويشجبه العقلاء في تعاملهم.

ولابدّ من التنبيه علي أن الآيات القرآنية كما تقدّم ويأتي في الفصل اللّاحق لا تثبت أن الوفود علي اللَّه تعالي من دون التوسّل بالآيات الإلهية مخلّاً بالأدب مع الحضرة الربّانية فحسب، بل هي تصرّح بامتناع الوفود عليه عزّ وجلّ من

دون آياته وحججه، وامتناع التوصّل إلي ذاته المقدّسة؛ لقصور في القوابل والاستعدادات.

2- الدليل التاريخي (السيرة): … ص: 38

لا ريب أن هناك ضرورة إسلامية وقرآنية تؤكّد علي أن فصل الشهادة الثانية وهي شهادة أن محمّداً رسول اللَّه- عن الشهادة الأولي وهي شهادة لا إله إلّا اللَّه- وإنكارها يُعدّ شركاً، وخروجاً عن دائرة التوحيد التام، الذي جاءت به الشريعة الإسلامية الخاتمة.

وعندما نرجع إلي القرآن الكريم نجده يحكم بالشرك والوثنية علي الطقوس والمناسك العبادية التي يأتي بها أهل الكتاب، وإن كانوا يدّعون أنهم علي دين موسي أو عيسي عليهما السلام.

وفي الوقت ذاته اعتبر القرآن الكريم عبادة قريش وحجّهم ومناسكهم وصلاتهم تجاه الكعبة من الشرك والجاهلية وعبادة الأوثان.

فالطقوس العبادية القرشية التي يزعمون أنها علي ملّة إبراهيم عليه السلام، كالصلاة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 39

إلي الكعبة وحجّ بيت اللَّه الحرام والاتيان بمناسكه كالطواف والسعي والوقوف بعرفات والمزدلفة وسَوق الهدي، كلّها حكم عليها القرآن الكريم بالوثنية والشرك والعبادة لغير اللَّه تعالي، وليس ذلك إلّالعدم الرجوع إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وقطع الصلة به والابتعاد عنه والتخلّي عن ولايته، وعدم الخضوع والطاعة له، وعزل الشهادة الثانية وفصلها وبترها عن الشهادة الأولي.

فإنّ ذلك كلّه يجعل العبادات والمناسك بأجمعها شركاً ووثناً وجاهليّة، كالطواف حول الكعبة مثلًا يعتبر شركاً وطاعة وعبادة لغير اللَّه عزّ وجلّ فيما إذا افتقد الشهادة الثانية والتولّي لنبيّ الإسلام صلي الله عليه و آله.

والفرق بين حجّ المشركين وحجّ المسلمين، هو أن المشركين يأتون بالمناسك من دون الخضوع والتسليم والتولّي لخليفة اللَّه تعالي، وأما المسلمون فهم يأتون بمناسك الحجّ مع خضوعهم لولاية النبيّ صلي الله عليه و آله وإقرارهم بالشهادة الثانية، ولذا كان حجّهم طاعة وعبادة خالصة للَّه عزّ وجلّ.

وقريش إنما خرجت من مغبّة الشرك والوثنية

ودخلت الإسلام بإقرارها بالشهادة الثانية وتولّيها للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والأخذ عنه والخضوع لطاعته وأوامره.

فليس التوحيد بالاتجاه مباشرة إلي اللَّه تعالي والانقطاع عن الوسائط، ولا الشرك بجعل الواسطة بين العبد وربّه، بل الوثنية والشرك في منطق القرآن الكريم رفض التسليم لولاية خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله؛ وذلك لأن الوثن والوثنية طاعة غير اللَّه عزّ وجلّ، والعبد إذا أنكر الواسطة التي نصبها اللَّه تعالي بينه وبين عبيده، لا يبقي له مجال وطريق لاستعلام أوامر اللَّه ونواهيه وإراداته وشريعته الحقّة، التي يريد من عبده السير علي خطاها.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 40

وحينئذٍ لا يكون لذلك العبد المنكر للوسائط إلّاإرادته وهواه وميول نفسه وسلطان ذاته، وهذه هي الوثنية؛ إذ يكون وثنه هواه، كما قال تعالي: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًي مِنَ اللَّهِ» «1».

فالهوي وسلطان النفس وثن من الأوثان وإله من الآلهة وإن لم يكن من الأحجار؛ إذ لا يشترط في الوثن والصنم أن يكون من الحجارة، فإن المسلمين يتوجّهون في عبادتهم إلي أحجار الكعبة ومع ذلك هم موحّدون ومطيعون للَّه تعالي؛ لكون ذلك عن أمره وإرادته وسلطانه.

والحاصل: إن أي عبادة من العبادات إذا إنقطعت عن الخضوع لولاية سيّد الرسل وفقدت تواصلها مع الشهادة الثانية تدخل حيز الشرك والوثنية الجاهليّة، كما جاء ذلك في قوله تعالي:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا» «2»

، حيث حكم اللَّه تعالي في هذه الآية المباركة بشرك ونجاسة ما يأتي به غير المسلمين من العبادات والمناسك في المسجد الحرام.

ثمّ إن من يجحد ولاية أهل البيت عليهم السلام بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يكون حاله كحال من جحد ولاية

النبيّ صلي الله عليه و آله، إذ من بعده صلي الله عليه و آله كيف يستعلم العبد إرادة ربّه وأوامره؟!

ومن ثمّ يقول الإمام الباقر عليه السلام في حجّ من لا يؤمن بمودّة وولاية أهل البيت عليهم السلام: فعال كفعال الجاهلية، حيث ورد عنه عليه السلام أنه نظر إلي الناس يطوفون

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 41

حول الكعبة، فقال: «هكذا كانوا يطوفون في الجاهليّة، إنما أُمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم ومودّتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم، ثم قرأ هذه الآية «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم»» «1».

وهذا برهان تاريخي وأدياني يؤكّد ضرورة الواسطة في صحّة العبادة وقبولها.

والواسطة هي الطاعة لوليّ اللَّه تعالي، بكلّ ما للطاعة من معني وتداعيات ومعطيات ومقتضيات تقتضيها تلك الطاعة وعلي جميع مستوياتها، فكما أن بدء التوحيد متوقّف علي الشهادتين كذلك بقاؤه في كلّ الأبواب الاعتقادية والعبادية، متوقّف علي بقاء الشهادتين إلي آخر المطاف.

***

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 43

الأدلّة التحليلية … ص: 43

اشارة

نرمي في استعراض هذه الأدلّة تحليل بعض المفاهيم الدينية والاعتقادية ويكون ذلك بدوره دالّاً علي مشروعية التوسّل وضرورته.

1- مفهوم العبادة: (مفهوم العبادة ينفي الوسائط المقترحة) … ص: 43

يمكننا عن طريق تحديد المفهوم الاصطلاحي للعبادة وبيان العبادة الخالصة للَّه تعالي والعبادة غير الخالصة استكشاف مشروعية نظرية الوسائط، وأن المستنكر منها هي الوسائط المقترحة فحسب، وذلك بالبيان التالي:

ذُكر للعبادة في اللغة معانٍ متعدّدة، أهمّها: أنها بمعني الطاعة والخضوع.

والقرآن الكريم أيضاً استعمل مفهوم العبادة في عدّة معان، منها ما يلي:

1- مملوكية المنفعة.

كقوله تعالي: «عَبْدًا مَمْلُوكًا لَايَقْدِرُ عَلَي شَيْ ءٍ» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 44

وقوله تعالي: «وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» «1».

2- سيادة الطاعة، وإن لم تكن أصالة للمطاع.

كقوله تعالي: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَاتَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» «2».

3- الطاعة والخضوع والانقياد للمعبود علي وجه التعظيم والتقديس، وأنه الغني بالذات ومصدر جميع الخيرات والنعم والكمالات مبدءاً وإصالة.

كقوله تعالي: «قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ» «3».

وقوله تعالي: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإْنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» «4».

وكقوله تعالي لموسي عليه السلام: «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي» «5».

وقوله تعالي: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» «6».

إلي غير ذلك من الآيات القرآنية المباركة، الدالّة علي إرادة الانقياد إلي المعبود علي وجه التعظيم وأنه الغني بالذات من مفهوم ومعني العبادة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 45

وهذا هو المعني الاصطلاحي لمفهوم العبادة.

وإذا كان هذا هو المعني الاصطلاحي للعبادة، فكيف كان توجّه المشركين إلي الوسائط شركاً، مع أنهم لا يتوجّهون إليها بما هي مصدر الخيرات أصالة بل بما هي شفيعة ووسيطة؟ وكيف تتحقّق العبادة لغير اللَّه تعالي؟ وكيف تتحقّق العبادة للَّه عزّ

وجلّ؟

والجواب هو ما تقدم، من أن الانكار ليس إنكاراً للوسيلة بما هي وسيلة، بل بما هي مقترحة ومخترعة من قبل العبيد، وأما إذا كانت الواسطة بجعل من اللَّه تعالي وإرادته وتحكيماً لسلطانه، فلا محالة يكون التوسّل والخضوع لتلك الوسيلة طاعة للباري تعالي، لأنه يكون انقياداً له تعالي علي وجه الرغبة والخضوع وأنه مصدر الخيرات مبدءاً وأصالة، فأي فعل يكون منطلقه من أمر اللَّه عزّ وجلّ لا يكون شركاً، وإن كان ذلك الفعل بالتوجّه والتوسّل بالوسائط، ومن ثمّ يكون سجود الملائكة لآدم كما سيأتي- عبادة للَّه لا لآدم؛ لأنه خضوع للَّه تعالي وامتثالًا لأمره بما أنه مصدر الخيرات.

إذن المدار في تحقّق العبادة وعدمه ليس علي ارتباط الطقوس العبادية بغير اللَّه وعدم الارتباط بغيره، بل المدار في العبادة الخالصة وقوام التوحيد في العبادة علي وجود الأمر الإلهي والإرادة الإلهية، وقوام الشرك في العبادة ليس علي تعلّق الفعل العبادي بغير اللَّه، بل الشرك في العبادة يتقوّم بعدم وجود الأمر والإرادة الإلهية، وإنما باقتراح من العبد نفسه.

ومن ثمّ لا يكون التوجّه بالكعبة إلي اللَّه عزّ وجلّ في الصلاة شركاً، بل هو شعار التوحيد.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 46

فنحن في صلاتنا نتوجّه إلي الكعبة الشريفة، مع أنها حجر ومع ذلك تكون عبادة للَّه تعالي، وفي صلاة الطواف نتوجّه إلي مقام إبراهيم عليه السلام، وكذا في الطواف نتوجّه إلي الكعبة ونتبرّك بالحجر الأسود ونتمسّح به، مع أن ذلك كلّه لم يجعل من الكعبة صنماً ولا من الحجر الأسود وثناً يُعبد من دون اللَّه، كلّ ذلك لوجود الأمر الإلهي بالصلاة والطواف حول الكعبة والتمسّح بالحجر الأسود، فيكون الامتثال تحكيماً لسلطان اللَّه تعالي علي إرادة العبيد، وذلك بخلاف أصنام الوثنيين.

وهذا ممّا اتفق عليه علماء الأصول، حيث

قرّروا أن العبادة لا تتحقّق إلّا بقصد امتثال الأمر وكون العبد ماثلًا طيّعاً أمام مولاه.

فإن وُجد الأمر تحقّق التوحيد في العبادة ولو مع الواسطة، وإن فقد الأمر كان الاتيان بالفعل شركاً ولو مع نفي الواسطة.

2- القول بالتجسيم من أسباب جحود التوسّل: … ص: 46

إنّ انكار التوسّل ورفض الوسائط ناتج إما من القول بالتجسيم أو القول بالنبوءة والتنبّي.

وأما من لا يدّعي النبوءة لنفسه وينكر الجسمية في الباري عزّ وجلّ، فلا محالة له من قبول الوسائط والوسائل في كلّ العوالم والنشئآت.

وقبل البرهنة علي هذا المدعي لابدّ من بيان بعض الأمور:

الأول: ليس المقصود من دعوانا أن انكار التوسّل ناتج من التجسيم أو دعوي النبوءة هو أن يكون القائل بذلك قد قال بأحدهما عنواناً وقولًا، بل قد يكون في

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 47

واقعه متبنّياً لحقيقة التنبّي أو التجسيم من دون أن يُسمّيه تنبّياً أو تجسيماً؛ وذلك لأنهما لا يدوران مدار العنوان والشعار، فالحقائق أو الأمور العدمية الباطلة تدور مدار واقعها، سواء واقعها العدمي في الأمور الباطلة أو واقعها الوجودي في الأمور الوجودية، فمن ينفي الوسائط فهو لا محالة إما يبني علي التجسيم أو يدّعي التنبّي كما سيتّضح، وهذا نظير ما ذكره الفقهاء في بحوث المعاملات، من أن الشخص ربّما يقصد ماهية معاملية معيّنة ويسمّيها باسم تلك الماهية المقصودة، ولكنها في واقعها قرض ربويّ أو بالعكس.

الثاني: إن هناك دعاءاً يؤكّد مضمون ما نريد الخوض فيه، وهو من الأدعية المأثورة لتعجيل الفرج، وهو: «اللّهمّ عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك، اللّهمّ عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللّهمّ عرّفني حجّتك فإنك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني» «1».

ومفاد هذا الدعاء هو أن منظومة المعارف إنما تصحّ وتكون صائبة مع صوابية

وحقّانية معرفة الانسان بربّه، وأن الخلل الناشئ في معرفة الأنبياء والرسل منبعه الخلل في معرفة اللَّه تعالي الصحيحة والتامة، كما أن الخلل في معرفة الحجج والأوصياء والأئمّة منشأه الخلل في معرفة الرسول، وبالتالي يكون ناشئاً من الخلل والنقصان في المعرفة المتعلّقة باللَّه تعالي، كما تشير إلي هذه الحقيقة مجموعة من الآيات القرآنية، منها:

قوله تعالي: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَي بَشَرٍ مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 48

شَيْ ءٍ» «1»

، فإنكار الرسل وعدم الإيمان بهم ناشئ من جهلهم بقدر الباري وقدرته وعظيم حكمته وتدبيره، ومن خلل المعرفة في أفعال اللَّه عزّ وجلّ.

ومن ثمّ هذا يؤكّد أن الذي ينفي الوسائط والوسائل والرسل والحجج، منشأ نفيه نقصان معرفته باللَّه تعالي، إما بالقول بالتجسيم أو القول بالتنبّي.

والغريب من أصحاب هذه المقالة، قولهم بأن التجسيم باطل في النشأة الدنياوية فقط، وأما في الآخرة فنلاقيه والعياذ باللَّه بصورة شابّ أمرد، ويستدلّون علي ذلك، بقوله تعالي: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ» «2»

و «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَي رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» «3»

و «الرَّحْمَنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي» «4»

، فيصوّرون الفوقية علي العرش فوقية مكانية، لا فوقية قدرة وهيمنة.

فهم يفترضون إن اللَّه عزّ وجلّ في الآخرة جسم، وهذا ناتج ضعفهم وقصورهم في المسائل العقلية والاعتقادية؛ إذ لم يلتفتوا إلي أن قولهم هذا يلزم منه كون اللَّه تعالي مادّياً، وكلّ أمر مادّي قابل للانقسام، فله أجزاء متولّدة من جسمه، وهو منافٍ لما نصّت عليه سورة التوحيد التي نفت التولّد والانقسام والتجسيم والمادّية.

ثم إن الجسم محدود، وهو تعالي خالق الجسم ومهيمن عليه لا يحدّه حدّ.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 49

وأهل البيت عليهم السلام يثبتون الرؤية القلبية للَّه عزّ وجلّ، وهو ما أكّدته الآيات القرآنية، كقوله تعالي: «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ

مَا رَأَي» «1»

، وهم عليه السلام ينفون الرؤية البصرية، التي يشترط فيها المحاذاة والمقابلة الجسمانية، واللَّه عزّ وجلّ منزّه عن الجسم والجسمية في جميع النشآت.

لقاء اللَّه يوم الحساب بآياته وحججه: … ص: 49

وحيث أن حشر الخلائق بأجسامهم، فإن ملاقاة العباد لربّهم تكون بالوسائط والوسائل والآيات، وإلّا للزم أن تكون المقابلة والملاقاة جسمية، أي أن الباري والعياذ باللَّه يلاقي أجسام الخلائق بجسمه وهو باطل بالضرورة.

فإياب الخلائق وحسابهم لابدّ أن يكون عبر الوسائل والوسائط والآيات، وإلّا فإن اللَّه عزّ وجلّ معنا أينما كنّا.

وذلك ديدن قرآني في الإسناد، كإسناد الإماتة إلي اللَّه عزّ وجلّ وإلي ملك الموت وإلي الرسل التي يديرها ملك الموت، فإياب الخلق وحسابهم علي اللَّه عزّ وجلّ، ولكن عبر آياته ووسائطه، قال تعالي: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَي» «2»

وقال تعالي: «وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» «3».

فإذا ثبت أن اللَّه عزّ وجلّ ليس بجسم، ونحن أجسام في شطر من ذواتنا وشطر من إدراكاتنا، التي تتحقق عبر الارتباط بالأجسام، سواء في الدنيا أو

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 50

البرزخ أو الآخرة، فلا يمكن الارتباط مباشرة بربّ العزّة والجلال، وحيث أن الارتباط باللَّه عزّ وجلّ في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة ليس منقطعاً تماماً، لأن معناه التعطيل في قدره الباري تعالي، وحيث ثبت بطلان التعطيل، وأنه لا تعطيل لمعرفة ذاته تعالي ولا لصفاته ولا لأفعاله ولا لعبادته ولا للقائه عزّ وجلّ، فلابدّ من القول إما بالوسائط أو النبوءة.

والمجسّمة قالوا بالتجسيم؛ لأنهم أنكروا الوسائط وخافوا من الوقوع في التعطيل أو دعوي النبوءة، فلا محيص لهم عن القول بالتجسيم، هذا كلّه علي المستوي التحليلي لما ادّعيناه أولًا.

وأما الدليل القرآني علي ذلك، فهو قوله تعالي: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ

مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» «1».

فقوله تعالي: «لِبَشَرٍ» للإشارة إلي الجسم والخصوصيات الجسمانية.

وقوله تعالي: «إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» بمثابة البرهان والاستدلال علي مضمون الآية المباركة.

وقوله تعالي: «مَا كَانَ» لنفي الشأنية والامكان، لا لبيان عدم الوقوع فقط، وإلّا لكان حقّ التعبير أن يقال: إن اللَّه لا يكلّم أحداً إلّابالطرق الثلاثة المذكورة في الآية.

ومعني الآية الكريمة أنه لا توجد أي مجابهة جسمانية بين اللَّه عزّ وجلّ وبين البشر، المحكومين بأحكام المادّة والجسمية، فتكليمه عزّ وجلّ للبشر إما وحياً، أي عن طريق جانب الروح في البشر، أو من وراء حجاب، أي عن طريق خلق الصوت وإيجاده في الأمور المادّية، كما في تكليم اللَّه عزّ وجلّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 51

لموسي عليه السلام، أو يرسل رسولًا أي إرسال الملائكة أو الأنبياء والحجج، بل وكذا الملائكة التكلّم معهم عن طريق الوحي، كما في قوله تعالي: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَي الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» «1»

، إذن لا وجه للمواجهة الجسمانية مطلقاً، سواء في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة.

ثم قال تعالي: «إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» أي متعال أن يكون جسماً محاطاً ومحدوداً، فإن العلو يستلزم نفي الجسمية، وهو عزّ وجلّ حكيم، أي غير معطّل، فمن حكمته أن يرسل رسلًا ويقيم أئمة ويوسّط وسائط، فلا تجسيم ولا تعطيل.

وهذه الآية ليست دلالتها مقصورة علي دار الدنيا فقط، بل هي بلحاظ كلّ النشآت الوجودية والتكونيية، فهو تعالي عليّ متعال علي الجسمية ومقابلة الأجسام، وحكيم غير معطّل بينه وبين خلقه عن طريق الوسائط والرسل، فهو عزّ وجلّ يُعرف برسله وأدلّته وحُججه.

وبعضهم حيث أنكر التجسيم وفرّ من مغبّة التعطيل ورفض الوسائط، بدعوي أنها صنمية منافية لروح التحرّر، وقع في

القول بالتنبّي، ولجأ إلي الإيمان بقدسية العقل وسعة مدياته وحدوده وأنه يصيب كلّ صغيرة وكبيرة، كما هي مقالة بعض المتعلمنين من الإسلاميين.

وحيث أن التنبّي والإيحاء إلي الجميع باطل بنصّ القرآن الكريم، وثبت أن التشبيه والتجسيم وكذا التعطيل باطل، فلابدّ من الإيمان بالوسائط والوسائل، ويكون إنكار وليّ اللَّه وحجته تجسيماً أو تعطيلًا أو استكباراً وإكباراً للنفس وصنميّة للعقل، وهي النبوءة المرفوضة في الكتاب والسنّة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 52

إذن الوسيلة والواسطة أمر برهاني وضروري في كلّ النشئات، ولذا ورد في الروايات أن الذي بُعث في عالم الذرّ بين اللَّه تعالي وبين باقي الأنبياء هو النبيّ محمّد صلي الله عليه و آله.

وهذا هو ما قلناه من أن الشهادة الأولي كما أنها مطلوبة في جميع النشئات، كذلك الشهادة الثانية وأن محمّداً رسول اللَّه صلي الله عليه و آله باقية في كلّ النشئات أبديّة وأزلية، فوصف النبيّ صلي الله عليه و آله بالرسالة ليس خاصاً بالدنيا فقط، وإنما النبيّ صلي الله عليه و آله رسول في إنزال القرآن، وآياته غير مختصّة بالدنيا، بل تحكي كلّ النشئات وعالم الربوبية والصفات وعالم الذات، بما لم يُنبّئ به نبيّ من الأنبياء، وهذا معني واسطته صلي الله عليه و آله في كلّ العوالم والنشئات.

والحاصل: إن لم يكن في البين تشبيه ولا تعطيل، فلابدّ من النبوءة أو قبول الوسائط والحجج، وحيث أن التنبّئ للكلّ باطل، فلابدّ من الإيمان والاقرار بالوسائط بين اللَّه تعالي وبين مخلوقاته في كلّ العوالم، فاللَّه عزّ وجلّ لا يُتوجّه إليه باتجاه جسماني، بل يُتوجّه إليه بالمعاني والآيات والحجج.

ومن ذلك كلّه يعلم عظم مكانة الآية والحجّة الإلهية، وأن إنكارها في الحقيقة بمنزلة إنكار الباري عزّ وجلّ، كما ورد ذلك في قوله تعالي:

«فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» «1»

، فإنكار خلافة خليفة اللَّه في الأرض ليس ينصبّ علي الوسيلة بما هي هي، بل يرجع إلي الكفر باللَّه تعالي «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَي بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ» «2»

وذلك لأن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 53

الذات المقدّسة إذا لم يكن بينها وبين المخلوقات أي ارتباط معناه التعطيل، وهو بمنزلة الإنكار للَّه عزّ وجلّ لأنه إنكار لقدره تعالي وقدرته وتدبيره.

فعظمة الوسائط والحجج والآيات بعظمة ذي الآية، التي اضيفت إليه، ويكون الاستخفاف بها استخفافاً باللَّه عزّ وجلّ، فلابدّ من تعظيمها وإجلالها.

ووظيفة الخليفة هي الواسطة والوساطة في تدبير شؤون العباد، وهذا النظر والاعتقاد الحقّ مما امتاز به مذهب أهل البيت عليهم السلام، وهو أن العوالم بجميع نشآتها لا تخلو عن حجّة وخليفة وواسطة.

والنقطة الأخري التي ينبغي الإشارة إليها في المقام، هي أن التوسّل والشفاعة والتوسّط والوسيلة تحمل في داخلها عدم المحورية الذاتية للشفيع والوسيط، أي ليس للوسيط والشفيع والوسيلة أي استقلالية عن اللَّه عزّ وجلّ، وذلك لأن الواسطة معناه أن النظرة إليها آلية وحرفية، ليس لها من ذاتها إلّاالفقر والحاجة إلي سلطان اللَّه وإرادته.

ولذا نجد أن الوسائط التي اتخذت من دون اللَّه عزّ وجلّ أخفقت في وساطتها ووجاهتها وكانت شركاً باللَّه عزّ وجلّ؛ لأنها استقلّت عن سلطانه وإرادته وإذنه.

والغريب في هذا المجال هو أن أصحاب هذه المقالة والجاحدين للتوسل آمنوا بأن الشفاعة والتشفّع بالنبيّ صلي الله عليه و آله في الآخرة ليس شركاً وكذا التشفّع بالنبيّ صلي الله عليه و آله حال حياته، وأما التشفّع به صلي الله عليه و آله حال موته فزعموا أنه من الشرك الأكبر.

ويرد عليهم السؤال التالي: إن دائرة الشرك من أين نتجت؟

هل من حدّ معني الشفاعة والواسطة، أو من حدّها التعبّدي، أو من خلال المعني العقلي؟

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 54

فاذا كان المعني عقلياً فالغيرية إذا أوجبت الشرك، فإنها توجبه في كلّ نشأة، سواء نشأة الدنيا أو الآخرة، وإذا لم توجب الغيرية الشرك لجهة الوساطة، فما هو الفرق بين أنواع التشفّع في الدنيا والآخرة، أو حال الموت وحال الحياة؟!

لا سيما وأن الشرك الأكبر «1» معنيً عقلي يدركه العقل، ونفيه وإثباته في متناول الأحكام العقلية، وهي لا تقبل التخصيص والاستثناء، لا سيما وأنها من الأحكام التي تقرب من البداهة.

وبعبارة أخري: إن الوسيلة والوساطة تعني تقوّم الواسطة والوسيلة باللَّه، وكونها مظهر فعله وظهوره، وهذا عين التوحيد في الأفعال والصفات، فكيف يُجحد تحت قناع أنه الشرك الأكبر، وتسمية ذلك الجحود بأنه توحيد؟!

فإن ذلك من التلبيس لأحد العنوانين مكان الآخر، خصوصاً وأنه قد مرّ أن إنكار الوسيلة والتوسّل بل يؤول إلي إنكار الشهادة الثانية؛ لأنه يؤول إلي إنكار ركنية ودخالة رسالة ومقام خاتم الأنبياء في التوحيد.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 55

الفصل الثاني: الأدلّة القرآنية … ص: 55

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 56

1- حقيقة التوسّل في أربع طوائف قرآنية

2- قصة آدم مع إبليس

3- الآيات البيّنات في المسجد الحرام

4- التوجه إلي القبلة طاعة للنبي صلي الله عليه و آله

5- المودة لذرية إبراهيم عليه السلام من شرائط الحجّ وغاياته

6- الولاية من شرائط المغفرة

7- الوفود علي ولي اللَّه من شرائط الحجّ

8- الأنبياء مصدر البركة

9- البقعة المباركة

10- وجوب تعظيم الأنوار الإلهية

11- بناء المساجد علي قبور الأولياء

12- حبط الأعمال وقبولها

13- آيات القسم بشخص النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله

14- الآيات الآمرة بالتوسل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله

15- آيات التوسّل بمخلوقات كريمة أُضيفت إلي الأنبياء والأولياء عليهم السلام

خاتمة في:

أ- الروايات الواردة في

مشروعية التوسّل.

ب- آراء أعلام السنّة في التوسّل

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 57

الأدلّة القرآنية … ص: 57

1- (حقيقية التوسّل في أربع طوائف قرآنية): … ص: 57
اشارة

إنّ الآيات القرآنية المباركة الدالّة علي أنّ الإنكار علي المشركين مُنصبّ علي الوسائط المقترحة دون الوسائط الإلهيّة علي طوائف متعدّدة:

الطائفة الأولي: وهي ما كانت بلسان استنكار الأسماء المقترحة من قبل العبيد ومن سلطانهم وهوي أنفسهم.

1- قوله تعالي: «أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ» «1».

وهذا الكلام يسجّله اللَّه عزّ وجلّ في قرآنه الكريم علي لسان نبيّه هود عليه السلام، حيث يحاجج عاداً قومه وينكر عليهم الوسائط المقترحة من عند أنفسهم والتي لم ينزل اللَّه عزّ وجلّ بها سلطاناً.

وقد تقرّر في علم أصول الفقه أن النهي أو النفي إذا ورد علي طبيعة مقيّدة بقيد، فإنما يقع ذلك النفي أو النهي علي القيد لا علي ذات المقيّد، كقولك: لا رجل طويل في الدار، فإنّ النفي في هذا المثال متوجّه إلي القيد وهو الطول،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 58

وليس المراد نفي أصل وجود الرجل في الدار، وبالنتيجة يكون المنفي الصنف والقيد وهو الرجل الطويل، لا ذات الطبيعة المقيّدة وهو عموم الرجل.

كذلك في المقام، فالآية في قوله تعالي: «مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ» تنفي صنفاً خاصّاً من الوسائط والوسائل، وهي الوسائط التي لم ينزّل بها اللَّه تعالي سلطاناً، والأسماء المقترحة والمجعولة من قبل أنفسهم وآبائهم.

فمصبّ الإنكار والتقريع والتخطئة هو كون تلك الأسماء والوسائط مقترحة من غير إذنٍ وسلطان إلهي.

ولم تنفِ الآية المباركة أصل وجود الوسائط والوسائل، وإلّا فلو كان أصل الوساطة والتوسيط أمراً مستنكراً فلا معني لذكر القيد، بل يكون ذكره لغواً ومخلّاً بالغرض والمراد.

مع أن الآية ركّزت علي ذكر القيد، وأكّدت علي أنّ الأسماء المستنكرة هي التي «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ

سُلْطَانٍ» لا مطلق طبيعة الأسماء والوسائط.

فليس الاشكال في أصل الاسم والوساطة، بل الاشكال في كونها مقترحة منهم ومسندة إليهم، من دون أن يُسمّها اللَّه عزّ وجلّ أو يجعلها واسطة بينه وبين خلقه.

وفي الآية المباركة إشارة لطيفة، حيث لم يطلق فيها الاسم علي ذات الباري عزّ وجلّ، بل أطلق علي ذات الواسطة بينه تعالي وبين عبيده، أي واسطة في النداء ووسيلة في التوجّه، فالإسم الذي يُدعي به هو الوسيلة أو الواسطة التي يتوسّل بها إليه.

2- قوله تعالي: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 59

سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الْأَنْفُسُ» «1».

وتقريب الاستدلال بهذه الآية الكريمة بنفس ما تقدّم في الآية السابقة، حيث أنها تجعل مركز التخطئة والاستنكار هو التصرّف الاقتراحي من العبيد في سلطان اللَّه تعالي، وليست التخطئة لأصل مقالة الحاجة والضرورة إلي الوسائط.

الطائفة الثانية: وهي ما كانت بلسان حصول الشرك بغير اللَّه عزّ وجلّ، بسبب الوسائط التي لم تكن بسلطان اللَّه وحكمه وإرادته.

1- قوله تعالي: «سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَي الظَّالِمِينَ» «2».

2- قوله تعالي: «وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا» «3».

3- قوله تعالي: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَي اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» «4».

فسبب الشرك الذي وقعوا فيه هو تحكيم سلطانهم ورغبتهم وهواهم وإرادتهم علي إرادة اللَّه تعالي وسلطانه، لا أن أصل الوساطة هو المرفوض في منطق القرآن الكريم.

الطائفة الثالثة: وهي ما كانت بلسان

العبادة من دون اللَّه تعالي، وأن التوسّل

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 60

بالوسائط والشفعاء بغير سلطان وإذن من اللَّه عزّ وجلّ يوجب عبادة مَنْ هو دونه، وهي الوسائط المقترحة.

1- قوله تعالي: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ» «1».

2- قوله تعالي: «مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» «2».

لا يقال: إذا كانت العبادة المرفوضة هي عبادة المعبود الذي لم ينزّل اللَّه به سلطاناً، فهل هذا يعني أن العبادة لغير اللَّه تعالي تكون جائزة فيما إذا نزّل به اللَّه عزّ وجلّ سلطاناً؟!

لأننا نقول: العبادة لغير اللَّه تعالي ممنوعة مطلقاً، والباري تبارك وتعالي لا يأمر بعبادة غيره، ومضمون هذه الطائفة من الآيات عين المضمون الذي تقدّم في الطوائف السابقة من الآيات، وهو أن العبادة من دون اللَّه تعالي تتحقّق فيما إذا كانت الوسيلة بإرادة العبيد واقتراحهم، وأما إذا لم تكن كذلك فلا تكون عبادة من دون اللَّه، بل هي عبادة للَّه عزّ وجلّ، كما جاء ذلك في سجود الملائكة لآدم، فهو سجود وطاعة للَّه تعالي، وامتثالٌ لأمره، لا أن السجود لآدم بنحو الاستقلال، لكي يكون عبادة وخضوعاً له من دون اللَّه عزّ وجلّ.

فهذه الطائفة من الآيات تبيّن أن العبادة من دون اللَّه تعالي إنما تتحقّق فيما إذا كان التوجّه إلي الوسائط المقترحة من قبل العبيد، من دون أن ينزّل بها اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 61

سلطاناً، وأما إذا كانت الوسائط منصوبة من قبل اللَّه عزّ وجلّ وبسلطان منه والتوجّه إليها بإرادته وأمره، فحينئذٍ يكون التوجّه إلي الوسائط انقياداً وامتثالًا للأمر الإلهي وعبادة للَّه تبارك وتعالي؛ لأنّه تحكيم لسلطانه وانصياع لأوامره.

فالذي يأتمر بأوامر اللَّه تعالي

بالانقياد مطلقاً بالوسائط أو بغيرها هو الموحّد التامّ في مقام العبودية والطاعة، وفي غير ذلك يكون قد تجرّأ واستكبر علي الباري تعالي وكفر بربوبيّته، كما فعل إبليس عندما استكبر وكان من الكافرين.

الطائفة الرابعة: ومضمونها هو أن أخذ التشريع من غيره تعالي يُعدّ شركاً في التشريع إذا كان من دون إذن اللَّه عزّ وجلّ.

1- قوله تعالي: «أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» «1».

2- قوله تعالي: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللَّهِ تَفْتَرُونَ» «2».

نتيجة الطوائف الأربع: … ص: 61

إنّ الإنكار علي الوثنية والمشركين ليس في فكرة الوسائط، بل باقتراحهم من الوسائط ما لم ينزّل اللَّه بها سلطاناً، فشركهم بمنازعة سلطانهم لسلطان اللَّه تعالي.

إذن فمشركو الجاهلية مع أنهم توسّلوا وتشفّعوا بالأصنام والأوثان بُغية الزلفي والتقرّب إلي اللَّه تعالي، وهم يعلمون أن الأصنام ليست غنية بالذات،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 62

وإنما هي وسائط وشفعاء إلي اللَّه عزّ وجلّ، مع ذلك كلّه اعتبرهم اللَّه تعالي من المشركين، وليس ذلك إلّالكون محطّ الإنكار عليهم ليس في نظرية وعقيدة الحاجة إلي الوسائط، بل لكون الوسائط والشفعاء التي تشفّعوا بها لم يأذن بها اللَّه تعالي، ولم تكن بإرادته وسلطانه، وإنما هي من تحكيم سلطانهم علي سلطان اللَّه تعالي.

وهذه الطوائف من الآيات مفسّرة لكلّ آيات الإنكار علي المشركين والوثنيين عبدة الأصنام وغيرهم، وأين هذا من المعني الذي يتوخّاه المنكرين لأصل التوسيط والوساطة، إذ جهة الزيغ والانحراف ليس في أصل فكرة الوسائط والوسائل والاحتياج إليها، بل من جهة كونها بإرادة العبيد وتحكيمها علي إرادة الربّ وسلطانه.

2- قصة آدم مع إبليس … ص: 62
اشارة

إنّ هذه الملحمة تعدّ من أوضح الأدلّة علي ضرورة التوجّه إلي الوسائط والحجج الإلهيّة، لطلب الزلفي والقرب من اللَّه عزّ وجلّ.

وهذه الواقعة تضفي بلونها علي جميع أصول الدين، إذ هي جاءت لتعيين مصير ومعالم مسار البشرية في مبدأ وفاتحة الخليقة، وذلك واضح لمن تتبّع الآيات التي استعرضت هذه الواقعة.

ونحن هنا نتعرّض إلي ما له صلة بالمقام:

وفيما يلي نذكر بعض السور والآيات التي استعرضت القصة:

1- قوله تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 63

وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «1».

2- قوله تعالي: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ

أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ* قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَي يَوْمِ الدِّينِ» «2».

3- قوله تعالي: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» «3».

4- قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ* قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ* قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَي يَوْمِ الدِّينِ» «4».

5- قوله تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 64

الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» «1».

هذه بعض الآيات التي تعرّضت للواقعة التي هي محلّ البحث.

وقد احتوت هذه القصّة علي دلالات متعدّدة تنصّ علي أسس المعارف الاعتقادية، وأحد تلك الجوانب المهمّة في القصّة هي أمر اللَّه تعالي الملائكة بالسجود لآدم، وذلك ضمن عدّة تعابير تبيّن شدّة الأمر بالانقياد والخضوع لآدم عليه السلام، كقوله تعالي: «فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» «2»

، حيث احتشدت فيها الدوالّ التأكيدية ك (هم) و (أجمع) و (كلّ) و (الملائكة) وغيرها، وكقوله تعالي: «فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» فهو أمر بالوقوع للسجود

مباشرة بلا فصل، ولا يخفي ما في التعبير بالوقوع من شدّة الخضوع والطوعانية وانقياد الملائكة لآدم عليه السلام.

وعلي ضوء مقالة أصحاب الشبهات المتقدّمة الجاحدين للتوسّل يكون امتناع إبليس من السجود عين التوحيد، فحيث أن إبليس أبي جعل الواسطة يكون أكبر موحّد؛ لكونه متقيّداً ومتشدّداً في العقيدة التوحيديّة وأول رائد لدعوة التوحيد ونفي العقيدة الشركيّة التي تورّط بها الملائكة بحسب زعم الجاحدين للتوسّل، ويكون إبليس علي هذا صاحب تحرّر وانفتاح وشفّافية في العبادة لرفضه الواسطة.

ويكون انقياد الملائكة وخضوعهم للواسطة هو الشرك الأكبر، ويكونون

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 65

بذلك مغالين في آدم، قد خلقوا منه صنماً والعياذ باللَّه لتقديسه وتعظيمه، بينما القرآن الكريم يقرّر الحقيقة علي خلاف ذلك، حيث يعتبر الملائكة موحّدون مطيعون، وأصبحوا بسجودهم في غاية القرب للَّه تعالي؛ لامتثالهم وطوعانيتهم للأوامر الإلهيّة، وفي الوقت ذاته حكم علي إبليس بالكفر، حيث عبّر عنه بأنّه كافر مستكبر مدحور ملعون مطرود عن ساحة الرحمة الإلهيّة.

ولا يستقيم معني كفر إبليس وتوحيد الملائكة في القرآن الكريم، إلّاعلي الضابطة التي ذكرناها، وهي أنّ المدار في الطاعة والعبادة وتوحيد اللَّه تعالي علي وجود الأمر الإلهي، فمع مخالفة الأمر الإلهي يتحقّق الكفر والشرك، وإن كان مضمون المخالفة هو رفض الوسائط، وذلك ما صنعه إبليس فأصبح مذؤوماً مدحوراً، وأما الملائكة الذين انقادوا وخضعوا للأمر الإلهي، فهم الموحّدون المطيعون، ولو كان ذلك عن طريق الواسطة والسجود لآدم عليه السلام، سواء فُسّر السجود بمعني جعل آدم قبلة لهم، أو بمعني الاحترام والتعظيم والانقياد لآدم والخضوع له.

إذن أصبح إبليس في غاية البعد من اللَّه عزّ وجلّ واستحقّ الطرد من رحمة اللَّه تعالي؛ لاستكباره علي طاعة الأمر الإلهي؛ ولأنّه أراد أن يُحكّم إرادته وسلطانه علي إرادة الباري تعالي وسلطانه، كما

جاء ذلك في الحديث القدسي، قال إبليس: (ربّ اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، فقال جلَّ جلاله: لا حاجة لي في عبادتك، إنما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد) «1»، وليس ذلك إلّالكون عبادته التي يزعمها مع رفضه السجود لوليّ اللَّه وواسطته- تكبّراً وتجبّراً علي اللَّه عزّ وجلّ وتحكيماً لسلطانه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 66

علي سلطان اللَّه تعالي، وهذا ينافي مضمون حقيقة العبادة، التي هي الخضوع والطوعانية للأوامر الإلهية؛ إذ ليس مدار العبادة علي وجود الواسطة وعدمها كما سبق.

فإبليس في حقيقة الأمر كان عابداً لهواه، والعابد أصبح هو المعبود لنفسه؛ إذ لم تكن عبادته خاضعة للأوامر الإلهية.

ثم إن مقام السجود والخضوع والانقياد لآدم عليه السلام لم يكن من مختصّاته، بل إن ذلك مقام الخلافة الإلهيّة، فكلّ من يتحلّي بهذا المقام ويتسنّم منصب الخلافة يكون مسجوداً للملائكة والجنّ وغيرهم ممّا خلق اللَّه عزّ وجلّ.

إذن فالخطاب والأمر بالسجود شامل لكلّ خلفاء اللَّه تعالي، خصوصاً وأن بعض الخلفاء الإلهيّين أعلي وأشرف منزلة من آدم عليه السلام في مقام الخلافة.

وعلي ذلك صحّ أن يقال: أن الآيات والأمر الإلهي بالسجود شامل وعام، أي اسجدوا لمحمّد ونوح وإبراهيم وموسي وعيسي وهارون وداود وأوصياء الأنبياء عليهم السلام، الذين هم خلفاء اللَّه في الأرض بنحو أشدّ وأكثر خضوعاً ممّا كان لآدم عليه السلام.

ومعني ذلك أن اللَّه عزّ وجلّ يُطوع جميع مخلوقاته ويأمرهم بالخضوع إلي خليفته ويأمرهم بالسجود له، أي يفترض عليهم ولايته وطاعته، بمعني أن يتوجّهوا في عباداتهم إلي اللَّه تعالي بالخليفة الذي جعله واسطة بينه وبينهم.

وهذا هو معني جعل وليّ اللَّه قبلة يتوجّه به إلي اللَّه تعالي.

وقد ورد التعميم في حكم السجود والخضوع

لمطلق الخليفة في قوله تعالي: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 67

مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» «1»

، فالبشر الذي خلقه اللَّه تعالي من طين وشرّفه بروح منه وهو روح القدس، لابدّ من السجود والخضوع والانقياد له في التلقّي عن اللَّه تعالي.

ملحمة إباء إبليس وسجود الملائكة لا زالت راهنة مستمرّة في هذا العصر … ص: 67

وإذا عرفت هذا وتمعّنت فيه يتّضح لك أن الملائكة وسائر الموجودات المخلوقة لا زالت ساجدة خاضعة منقادة لوليّ اللَّه وخليفته في أرضه، ولا زال إبليس وأعوانه وأتباعه وأشياعه من الجنّ والإنس يستكبرون علي خليفة اللَّه، وينكرون وساطته ويرفضون الخضوع له والتوجّه إليه والتوسّل به إلي اللَّه تبارك وتعالي.

وهذا الذي ذكرناه كما ينطبق علي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله كذلك يصدق علي الأوصياء الأصفياء والأئمّة والخلفاء من بعده من أهل بيته عليهم السلام.

وهذا أيضاً نداء قرآني للمسلمين وكافّة البشر بالانقياد لمحمّد صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام بمعني الخضوع لهم والتوجّه بهم إلي اللَّه عزّ وجلّ في مقام العبادة، وهذا هو النمط الثاني لفرض ولايتهم وطاعتهم عليهم السلام، مضافاً إلي النمط الأول وهو معرفتهم والإيمان بهم.

والحاصل: أن ما اقترحه إبليس علي اللَّه عزّ وجلّ من السجود المباشر من دون توسيط وليّ اللَّه تعالي وهو آدم عليه السلام عين الشرك والكفر؛ لأنّه تكبّر وتجبّر

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 68

وتمرّد علي اللَّه عزّ وجلّ، وهو ينافي العبادة والعبودية التي مدارها علي الطوعانية والانصياع.

والملائكة في سجودهم لآدم موحّدون في العبادة؛ لكونهم خاضعين منقادين لأمر اللَّه عزّ وجلّ، وهو معني العبادة والاستسلام لإرادة الباري عزّ وجلّ.

وكان سجودهم وخضوعهم وانقيادهم لآدم عبادة للَّه تعالي وطاعة له؛ لكونها ناشئة عن أمره عزّ وجلّ، ولذا ورد في الحديث عن

أمير المؤمنين عليه السلام، قال في سجود الملائكة: «لم يكن سجودهم عبادة له، وإنما كان سجودهم طاعة لأمر اللَّه عزّ وجلّ» «1».

وهذا هو الفارق الأساس الذي يفصل بين التوجّه لأحجار الكعبة الشريفة وبين التوجّه للأصنام، مع أن كلّ منهما حجر، فهذا شرك وذاك توحيد، ومداره وجود الأمر الإلهي وعدمه.

ثمّ إنّ السجود لآدم والسجود تجاه الكعبة والتبرّك بالحجر الأسود وغير ذلك ليس عبادة لها، بل هي عبادة لصاحب الأمر، وهو اللَّه عزّ وجلّ، فهو الذي أمر بذلك، والعباد منقادون مطيعون لأمره تبارك وتعالي.

الإمامة ركن التوحيد: … ص: 68

ومن المعالم المهمّة أيضاً، والتي استعرضتها الآيات القرآنية في قصّة آدم هي الولاية والخلافة، فالتوحيد في العبادة لا يكون إلّابالانصياع والتذلّل لخليفة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 69

اللَّه تعالي المنصوب من قبله عزّ وجلّ، فإبليس الذي استكبر علي الخلافة والإمامة في الأرض كافر بنصّ القرآن الكريم، والملائكة الذين خضعوا وسجدوا لخليفة اللَّه تعالي موحّدون في العبادة.

فالإمامة معلم من معالم توحيد اللَّه تعالي في الطاعة، والمطيع والخاضع لوليّ اللَّه ووسيلته، هو الموحّد الحقيقي، وبذلك يكون الكون بأجمعه مأموراً بالطاعة والانقياد لمقام الخلافة والإمامة في الأرض، بما فيهم كبار الملائكة المقرّبين، حيث أخذ اللَّه عزّ وجلّ الولاية للإمام والخليفة علي جميع الملائكة، فمن يأبي ذلك يندرج تحت قوله تعالي: «أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ».

ولا شكّ أن الإيمان بهذه العقيدة من مختصّات المذهب الإمامي، الذي آمن بأن السبب المتّصل بين الأرض والسماء لم ينقطع بعد وفاة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، وأن الولاية الفعلية للَّه تعالي والحاكمية السياسية والقضائية والتنفيذية والتشريعية، لا زالت قائمة بعد النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، فولاية اللَّه تعالي في تدبير النظام الاجتماعي بشكل مطلق غير معطّلة.

وبذلك كلّه نخلص إلي: أنّ

إنكار الواسطة المنصوبة من اللَّه عزّ وجلّ هو ما قام به إبليس، حيث يدّعي التوحيد في العبادة، لكن باطن دعواه الشرك، فلابدّ أن يُلتفت إلي أن العبادة في جوهرها وروحها ليست بهيئة السجود أو الركوع أو تحريك اللسان أو بالقصد إلي بيت اللَّه الحرام فيما إذا كان المكلّف يحمل في طيّات نفسه الإباء والاستكبار علي ربّه، فإن هذا هو محطّ الكفر والصنمية والفرعنة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 70

ضابطة العبادة: … ص: 70

ومن هنا قد ينبثق إشكال أشرنا إليه سابقاً وأجبنا عنه إجمالًا نحاول أن نجيب عنه بشي ء من التفصيل.

وحاصل الاشكال: هو أن البحث انتهي بنا إلي أن المدار في العبادة علي قصد الأمر وعدمه، فلو كان كذلك فهل يعقل أن الباري يأمر بعبادة غيره؟!

فإذا كان ذلك غير معقول فلا يكون المدار علي وجود الأمر وعدمه، بل المدار علي تخصيص العبادة باللَّه تعالي وعدم تخصيصها به.

وبعبارة أخري: لو كان المدار علي وجود الأمر وعدم الأمر لكان من المعقول أن اللَّه تعالي يأمر بعبادة غيره، والحال أن القرآن الكريم في آيات عديدة ينهي عن الكفر والشرك وعبادة غير اللَّه تعالي.

وحينئذٍ يكون المدار علي ذات الفعل وذات الخضوع، فإن كان لغير اللَّه فلا يعقل أن يؤمر به من قبل اللَّه عزّ وجلّ، وإن كان للَّه عزّ وجلّ فهو العبادة التوحيدية، فالخضوع والفعل العبادي لا يقبل التوسيط، بل لابدَّ من توجيهه وتخصيصه وإضافته إلي اللَّه عزّ وجلّ، ولا يعقل أن يتوجّه إلي غير اللَّه عزّ وجلّ في الفعل.

فالضابطة ليس علي وجود الأمر فقط، بل علي اسناد الفعل أيضاً، فإذا تمحّض الفعل في الإضافة إلي اللَّه عزّ وجلّ يكون توحيداً في العبادة، وإذا امتزج الفعل في الإضافة إلي غير اللَّه تعالي يكون شركاً، فالمدار علي

إثبات الواسطة ونفيها.

والجواب: هو أن المدار علي وجود الأمر لا غيره، والذي يُحقّق كون العبادة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 71

والخضوع مضافتين إلي اللَّه عزّ وجلّ دون غيره هو نفس وجود الأمر وامتثاله.

وذلك كما ذكرنا في الفارق بين التوجّه إلي الكعبة وهي أحجار وبين التوجّه إلي الأصنام من قبل الوثنية، وهو وجود الأمر وعدمه.

وبعبارة أخري: مع وجود الأمر الإلهي لا يكون الخضوع والعبادة للواسطة، بل لأمر اللَّه محضاً، ومع عدم وجود الأمر لا يكون الخضوع للَّه وإن نفيت الواسطة، بل يكون خضوعاً لهوي النفس واستكبارها.

فإن العبادة بتسالم علماء الإسلام ليس تحقّقها بالهيئة فقط، وإنما جوهر العبادة وروحها بالخضوع والطوعانية والسلم والاستسلام.

ومن الواضح أن الهيئات والأفعال البدنية، من السجود والركوع وألفاظ الدعاء، من درجات العبادة النازلة في القوي الإنسانية، وأما درجات ذات الانسان العالية كقوة عقله وقلبه فإن عبادته بالتسليم والانقياد والإذعان، وهي المعرفة الإيمانية، ومن ثم ورد أن «الأعمال بالنيّات» أي أن قيمة العبادة بلحاظ النيّة، والنيّة هي التوجّه القلبي المتولّد من الإيمان.

وعليه فما اشتهر من تقسيم التوحيد إلي توحيد الذات والصفات والأفعال وتوحيد العبادة لا يخلو من مسامحة، لأن التوحيد في مقام المعرفة هو توحيد عبادة أيضاً، حيث أن إذعان القلب والعقل والروح وتسليمها بتوحيد الذات والصفات والأفعال خضوع للباري تعالي، وإخبات وتسليم، فهي عبادة للَّه من العقل والقلب والروح، ولا يمكن أن يكون للبدن والنفس عبادة للَّه ولا يكون للعقل والقلب والروح عبادة للَّه بالإيمان والإذعان والتسليم والإخبات وعدم الجموح والتمرّد علي اللَّه تعالي، إذ أن جوهر العبادة هو التسليم والإنقياد

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 72

والطاعة والطوعانية وكون العبد طيعاً مطاوعاً.

فإذا أمر الباري تعالي بهيئة معينة في العبادة فطاعة ذلك الأمر هو العبادة التوحيدية، وإن كان لهيئة العبادة المأمور بها

علاقة وإضافة إلي وسيلة وواسطة معيّنة، فقوله تعالي: «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» «1».

إنما هو جعل إلهي للواسطة والوسيلة وهي الكعبة، وهذا لا يعني أن اللَّه تعالي يأمر بعبادة الكعبة والسجود والخضوع لها، بل إنما السجود والخضوع له تبارك وتعالي، وباب التوجّه إليه عزّ وجلّ هي الكعبة، فهي وجه اللَّه عزّ وجلّ، حيث أطلق الباري علي الكعبة والمسجد الحرام بأنه وجه اللَّه؛ لأنه تعالي قال:

«وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» والوجوه إنما يقابلها وجه يكون واسطة بين العبد والمعبود، ثم بعد ذلك يُعقّب اللَّه عزّ وجلّ بأنني عندما أقول توجّهوا إلي الكعبة واجعلوها قبلة ووجهاً لا يعني انحصار الوجه الإلهي بالكعبة، بل «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» «2»

، وإنما الوجه الأساس الذي جعل في التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ في الصلاة هو الكعبة الشريفة.

فإذا كانت الكعبة تستحقّ أن تكون وجهاً للَّه تعالي، فكيف لا يكون سيّد الرسل صلي الله عليه و آله وجهاً من وجوه اللَّه عزّ وجلّ، بل أعظم الوجوه للَّه تعالي؟!

مع أن الكعبة المشرّفة عبارة عن أحجار.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 73

نعم المجسّمة يقولون إن وجه اللَّه تعالي هو العضو الجسماني منه، وهو قول باطل بالضرورة؛ إذ لا وجه ولا يد ولا رجل للَّه عزّ وجلّ بمعني أنه عين ذاته، نعم يده من مخلوقاته بمعني القدرة والتصرّف، ووجهه بمعني التوجّه إليه تعالي بآياته، التي هي علامات ودلالات مخلوقة للَّه تعالي لابدّ من الاستدلال بها علي ذي الآية.

وحينئذٍ فالمدار علي وجود الأمر، وهو الذي يخصّص الخضوع بكونه للَّه تعالي لا لغيره وإن أضيف إلي الواسطة، إذ ليست هي إضافة خضوع وعبادة، بل إضافة

وسيلة وتوجّه بحسب ما هو الأمر الإلهي، والأمر هو مقام الآمرية والمولوية للَّه عزّ وجلّ، وإعمال سلطنة علي العبد، وانقهار العبد واستسلامه لإرادة مولاه يُعدّ عبادة لمولاه لا لغيره، فمع وجود الأمر لا يعقل أن تكون العبادة لغير اللَّه، لأن العبادة التي هي الطاعة لغير اللَّه لا يتحقّق معناها مع وجود الأمر من اللَّه تعالي، ومع عدم وجود الأمر لا يكون الإتيان بالفعل طاعة وعبادة للَّه وإن حذفت الوسائط، بل يكون شركاً وطاعة لهوي النفس وتكبّراً واستكبار علي آيات اللَّه تعالي وحججه.

والحاصل: إن المدار في العبادة ليس علي هيئة الأفعال والطقوس فحسب، كما تسالم علي ذلك علماء المسلمين من فقهاء ومحدثين ومتكلّمين ومفسّرين، فإن اللّاعب الرياضي قد يتخذ هيئة خاصة كالسجود والركوع وغيرهما، ولكن قصده الرياضة من شدّ عضلات الظهر أو الركبتين أو غيرها، وكذا دفع الخمس أو الزكاة بقصد الرشوة أو السمعة والرياء، فإن ذلك كلّه ليس من العبادة، وإن كانت هيئته هيئة عبادية، وليس ذلك إلّالكونه خارجاً عن إطار

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 74

الأوامر الإلهية.

ولذا كان امتثال الأمر الإلهي بالسجود أو الركوع إلي الكعبة والاعتكاف في المسجد والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة والازدلاف إلي مني والطواف حول البيت الحرام ليس عبادة للكعبة أو المسجد أو عرفة أو غيرها، وإنما إضافة تلك الهيئات العبادية إليها إضافة امتثال وطاعة وتوسّل وتوجّه إلي اللَّه تعالي انقياداً لأمره، ولا يعني ذلك صنمية أو عبادة لتلك البقاع الطاهرة؛ إذ مع وجود الأمر الإلهي يكون الامتثال انقهاراً واستسلاماً من العبد لربّه، ولا يمكن أن تكون عبادته عبادة لغير اللَّه تعالي، بل قد تكون أفعال ونسك الحج والصلاة إلي الكعبة شركاً، كما كان في عهد الجاهلية قبل الإسلام، وتكون توحيداً إذا كانت

بولاية ولي اللَّه وهو الرسول كما في أفعال الحج بعد الإسلام، فالسجود والخضوع لمن أمر اللَّه عزّ وجلّ بالخضوع له طاعة للَّه بالأصالة، وليس المسجود له إلّاواسطة في العبادة، وآية في المعرفة والانقياد.

3- الآيات البينات في المسجد الحرام: … ص: 74
اشارة

قال تعالي: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًي لِلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» «1»

، فالآية تتحدّث عن بناء البيت الحرام وأنه أوّل بيت وأشرف بيت وضع للناس لأجل عبادة اللَّه تعالي، فهو إمام المساجد وأوّلها، ومنه تتشعّب بقيّة بيوت اللَّه تعالي، التي وضعت للعبادة، ففي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 75

الآية الكريمة مزج بين حقيقتين:

الأولي: أن البيت الحرام هو أوّل بيت وضع للعبادة وللحجّ.

الثانية: ما يحويه هذا البيت المبارك من آيات بيّنات، وهي مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً.

فعندما أراد اللَّه تعالي أن يبيّن حقيقة بيته المبارك وأنه وضع للعبادة والتوحيد والتطهير من الشرك والهداية للعالمين، ذكر سبب ذلك، وهو أنه فيه آيات بيّنات.

إذن الركن الركين في ماهية البيت الإلهي وفي كونه هداية للعالمين ومحلّاً للعبادة والتوحيد ونفي الشرك هو كونه فيه آيات بيّنات، فالذي يُعضّم شأنه ويجعل العبادة فيه عبادة توحيدية توفّره علي تلك الآيات البيّنات، والعطف في الآية المباركة عطف بيان، فالآيات المقصودة في الآية المباركة هي مقام إبراهيم عليه السلام أوّلًا، ومن دخله كان آمناً ثانياً، وهاتان الآيتان في البيت الحرام ذُكرا علي سبيل التمثيل لا الحصر؛ ولذا جاء التعبير في الآية بلفظ الجمع وهو (آيات بيّنات).

فالبيت الذي وضع للناس من أجل العبادة والهدي ونفي الشرك ميزته التي جعلته كذلك هي أنه فيه آيات بيّنات، والحجّ الذي هو

شرعاً القصد إلي بيت اللَّه الحرام للوفود علي اللَّه تعالي جُعل مقروناً بالآيات، وهي مقامات الأنبياء وقبورهم ومناسكهم؛ ليكون دليلًا وشاهداً علي أن التوجّه والسير إلي اللَّه عزّ وجلّ لا يتمّ إلّابالتوجّه بأنبيائه وأصفيائه والتوسّل بهم إلي اللَّه تعالي.

فلا ينفكّ توحيد اللَّه وعبادته عن التمسّك بالآيات البيّنات، كما مرّ ذلك في

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 76

سورة الأعراف، وهو قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمجْرِمِينَ» «1»

، حيث ربطت بين التمسّك بالآيات وبين استجابة الدعاء والتقرّب وقبول الأعمال والنجاة من النار.

وفيما يلي نحاول استعراض بعض هذه الآيات البيّنات الموجودة في البيت الحرام، وهي:

1- مقام إبراهيم عليه السلام.

2- الأمن والأمان بالنسبة إلي داخليه من الحجّاج والمعتمرين وغيرهم.

3- المستجار أو الملتزم.

4- حجر إسماعيل وقبره وقبر امه وقبر سبعين نبيّ.

5- الصفا والمروة.

6- الحجر الأسود.

7- مشاعر الحجّ ومناسكه، كالمزدلفة ومني والجمرات وعرفة.

مقام إبراهيم: … ص: 76

هذه الآية الإلهية من أبرز معالم وآيات المسجد الحرام، وقد نصّت علي ذلك الآية التي هي محلّ البحث، وقد ورد في سورة البقرة أيضاً قوله تعالي:

«وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي وَعَهِدْنَا إِلَي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 77

إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» «1»

، والتعبير ب (مقام) في كلا الآيتين للدلالة علي التفخيم والتعظيم لذلك المكان وهو حجر من الأحجار كما في قوله تعالي: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ» «2»

وقوله تعالي:

«عَسَي أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا» «3»

، وليس ذلك إلّالكونه لامس بدن إبراهيم عليه السلام، حيث كان يقف عليه عند بنائه للبيت الشريف.

فهذا الحجر عظّمه اللَّه تعالي وفخّمه وسمّاه مقاماً، وأمرنا أن نتّخذه مصلّي، أي

نتّخذه قبلة بالاتجاه إليه وإلي الكعبة أثناء صلاة الطواف وغيرها في شعيرة الحجّ والعمرة، التي هي القصد والتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ، فالحاج عندما يريد أن يقصد ويتوجّه إلي ربّه بعمرة أو حجّ في الطواف وفي بيت التوحيد ومعقله، لابدّ له من التوجّه بالحجج والوسائط والآيات إلي اللَّه تعالي، وهو مقام إبراهيم والكعبة المشرّفة، وليس ذلك كلّه إلّالتبرّك الحجر بملامسة بدن إبراهيم عليه السلام، فيتوجّه به إلي اللَّه في الصلاة، فلا يستطيع المسلم أن يتجنّب أو يستبعد آيات اللَّه وحججه في أبرز معالم التوحيد وهو الحجّ.

وإذا كان الحجر بملامسته بدن إبراهيم عليه السلام هذه حاله، فكيف بك بنفس النبيّ إبراهيم؟ ألا يتوجّه به إلي اللَّه عزّ وجلّ بالأولوية، فيقال: يا وجيهاً عند اللَّه اشفع

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 78

لنا عند اللَّه؟!

وقد جاء في دعاء الندبة ما يقرب من هذه المضامين.

والحاصل: إن هناك رمزاً آخر بالاضافة إلي رمزية الكعبة، لابدّ من التوجّه إليه واستقباله في الصلاة، ومن لم يصلِّ صلاة الطواف إلي المقام والكعبة معاً فصلاته باطلة، وبالتالي يكون نُسكه باطلًا وقصده إلي الباري تعالي لم يتحقّق، لعدم إتيان البيوت من أبوابها.

بيان آخر للآية الكريمة: … ص: 78

ثبت في علم الأصول أن الحكم معلول لموضوع نفسه ولا يمكن أن يكون علّة له، ففرض الموضوع سابق ومتقدّم علي فرض الحكم، والحكم في قوله تعالي، «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي» هو وجوب اتخاذ المقام مصلّي، والموضوع هو مقام إبراهيم عليه السلام، ومتعلّق الحكم هو استقبال مقام إبراهيم عليه السلام في الصلاة.

وحيث أن الموضوع سابق علي الحكم سبق العلّة علي معلولها، فلابدّ من فرض المفروغية عن جعل سابق لتحقّق الموضوع في نفسه، وهو كون مقام إبراهيم عليه السلام محلّ للقربات والتعبّد والبركة والقداسة، وحينئذٍ وبعد الفرغ

عن ذلك يأتي المحمول، وهو وجوب اتخاذه مصلّي باستقباله في الصلاة إلي جهة الكعبة.

فالحكم دالّ علي أن للموضوع أسبقية في القداسة وكونه معلماً من معالم الدين، وليس المقام المذكور إلّاصخرة لامست قدمي إبراهيم عليه السلام فتقدّست بذلك وأصبحت ذات حرمة يتولّد منها وجوب اتخاذه مصلّي، بأن يجعل قبلة مع الكعبة، فيستقبل في صلاة الحجّ والطواف في بيت اللَّه الحرام، ويتقرّب بالاتجاه به إلي اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 79

فالمثابة إلي بيت اللَّه الحرام من دون اتخاذ مقام إبراهيم مصلّي يكون وثناً وشركاً كعمل المشركين ومناسكهم.

ومن ذلك يتّضح أن البيت الحرام إنما يجب أن يقصد بشرط، وهو أن تُقرن العبادة التوحيدية للحجّ بوليّ اللَّه إبراهيم عليه السلام، والمقامات المقدّسة والمشاهد المشرّفة، التي حلّ فيها أو لامست بدنه المبارك، فالمسلم يقصد في حجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ الوصول إلي آثار الأنبياء ومقاماتهم؛ لكونها مواطن شعّرها اللَّه عزّ وجلّ وجعلها أسباباً ووسائط لنيل القربي والزلفي إليه تعالي.

وإذا كانت صخرة لامست قدمي إبراهيم عليه السلام لها تلك القداسة والعظمة والبركة، فكيف بك بمشاهد النبيّ الأعظم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، الذين هم أفضل وأعظم من إبراهيم وجميع الأنبياء عليهم السلام، حيث نصّ القرآن علي كون علي عليه السلام بمنزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله، وهذا مقام لم يحظَ به أحد من الأنبياء والمرسلين، وكذلك قرنهم اللَّه تعالي بنبيّه في مواطن عديدة كما سيأتي بيانه، إختصهم بذلك دون بقية الأنبياء والمرسلين، كما نعتهم بأنهم أوتوا علم الكتاب كلّه في قوله: «لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «1»

وهم أهل آية التطهير، وكذا ما في قوله تعالي:

«قُلْ كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «2»

بينما لم يثبت

اللَّه تعالي علم الكتاب كلّه لأحد من الأنبياء، ففي النبي عيسي عليه السلام قال تعالي علي لسانه: «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» «3»

وفي شأن النبي موسي عليه السلام:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 80

«وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً» «1»

فلم يكن من مقامهما عليهما السلام أن يبيّنا كلّ ما يختلف فيه بني إسرائيل ولم يكتب في ألواح موسي عليه السلام كلّ شي ء، بل من كل شي ء؟! وعلي هذا كلّه ألا تكون مشاهدهم والأماكن التي حلّوا فيها محلّاً للبركة والقداسة وموجبة للزلفي إلي اللَّه عزّ وجلّ؟!

إذن هذه الآية المباركة تفيد عموم التبرّك بمواضع الأنبياء والأولياء وأنه من صميم التوحيد ونبذه من صميم الوثنية والجاهلية.

وليس ذلك إلّالكونها من شعائر اللَّه، فيجب تعظيمها تعظيماً للَّه تعالي، فهذه الآية الكريمة دالّة بالنصّ علي تشعير مواطن الأنبياء والمصطفين للقربي والعبادة.

ثم إنه لا يخفي ما في التعبير ب (المقام) في الآية المباركة من الدلالة علي ما تقدّم؛ لأن التعبير ب (مقام) له دلالة شرعية أديانية بكون ذلك المكان محلّاً يتبرّك به.

وهكذا إضافة المقام إلي إبراهيم مُشعر بالعليّة، فليس ذلك الحكم حكماً لكلّ حجر، بل الحجر المنتسب إلي إبراهيم عليه السلام.

بل قد حكي القرطبي في تفسيره عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء أن مقام إبراهيم الحج كلّه، وعن عطاء أنه عرفة ومزدلفة والجمار وقاله الشعبي، النخعي: الحرم كلّه مقام إبراهيم، وقاله مجاهد «2»، فعلي هذه الأقوال في تفسير

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 81

مقام إبراهيم يتّضح جليّاً أن الحج والحرم كلّه قد مُلأ ببصمات وإضافات منتسبة إلي النبي إبراهيم عليه السلام وأنه لأجل ذلك استأهلت تلك الأماكن أن تكون مواطن لعبادة اللَّه، وأن الحج جعل عبادة توحيدية عظيمة بوسيلة التوجّه بأنبياء اللَّه في الأعمال

والنسك التي يؤتي بها، حيث أضيفت إليهم عليهم السلام، وسيأتي مزيد من الإيضاح لذلك في بقية مقامات الحج.

ولأجل ذلك كلّه ورد الحثّ عن أهل البيت عليهم السلام لأصحابهم بالتواجد في الأماكن التي شهدها النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وتشرّفت بحلوله صلي الله عليه و آله فيها.

من ذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال لعبد الأعلي: «إذا مررت بوادي محسّر فاسعَ فيه، فإن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله سعي فيه» «1».

وعن عقبة بن خالد قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام إنا نأتي المساجد التي حول المدينة فبأيها أبدأ؟ فقال: «ابدأ بقبا فصلِّ فيه وأكثر، فإنه أوّل مسجد صلّي فيه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في هذه العرصة، ثم إئت مشربة أم إبراهيم فصلِّ فيها، فإنها مسكن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ومصلّاه» «2».

كذلك عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال لمعاوية بن عمّار: «لا تدع إتيان المشاهد كلّها، مسجد قبا فإنه المسجد الذي أسّس علي التقوي من أوّل يوم، ومشربة أمّ إبراهيم، ومسجد فضيخ، وقبور الشهداء ومسجد الأحزاب وهو مسجد الفتح» «3».

والروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً نكتفي منها بهذا المقدار.

هذه هي الآية الأولي من الآيات البيّنات في المسجد الحرام.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 82

حجر إسماعيل: … ص: 82

لقد ورد في الروايات أن حجر إسماعيل يضمّ قبره وقبر أمه هاجر وقبر سبعين نبيّاً أو تسعة وتسعين.

ففي الكافي عن معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شي ء من البيت؟ فقال: لا ولا قُلامة ظفر، ولكن إسماعيل دفن أمه فيه فكره أن توطأ، فحجّر عليه حجراً، وفيه قبور أنبياء» «1».

وقال

السيوطي في الدرّ المنثور: (وتوفّي إسماعيل بعد أبيه فدفن داخل الحجر مما يلي الكعبة مع امه هاجر) «2».

وأخرج القرطبي في تفسيره، عن عبد اللَّه بن ضمرة السلولي: (ما بين الركن والمقام إلي زمزم قبور تسعة وتسعين نبيّاً) «3».

وفي الطبقات لابن سعد، عن أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: (لما بلغ إسماعيل عشرين سنة توفيت أمه هاجر وهي ابنة تسعين سنة فدفنها إسماعيل في الحجر) «4».

وأخرج أيضاً عن أبي جهم بن حذيفة بن غانم قال: (أوحي اللَّه علي إبراهيم عليه السلام أن يبني البيت وهو يومئذٍ ابن مائة سنة وإسماعيل يومئذٍ ابن ثلاثين سنة فبناه معه، وتوفّي إسماعيل بعد أبيه فدفن داخل الحجر مما يلي الكعبة مع

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 83

أمه هاجر) «1».

وفي كتاب فضائل مكّة للحسن البصري، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «إن حول الكعبة قبر ثلثمائة نبيّ، وما بين الركن اليماني والركن الأسود قبر سبعين نبيّاً» «2».

ثم إن من طاف حول الكعبة بإخراج حجر أسماعيل فطوافه باطل، وقد نصّ علي ذلك الفقهاء من الفريقين، أما فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام فهو واضح، وقد صرّحت بذلك روايات أهل البيت عليهم السلام، وأما فقهاء أهل سنّة الجماعة، فقد صرّحوا بهذه الحقيقة أيضاً، ففي مواهب الجليل للرعيني، قال: (وقال ابن مسدي في منسكه: وأما قولنا ويطوف من وراء حجر إسماعيل فهو الاجماع، ثم اختلفوا، فقال أصحاب الرأي: يطوف من وراء الحجر استحباباً، وقال جمهور العلماء بالوجوب إلي أن قال- ثم اتفقوا علي أن من طاف ببناء البيت الظاهر ولم يُدخل الحجر في طوافه أنه يعيد الطواف ما دام بمكّة، ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة ومن تبعه: يعيد استحباباً، وقال جمهور

العلماء: يعيد وجوباً؛ لأنه كمن لم يطف، فإن لم يذكر حتي انصرف إلي بلاده، فقال ابن عباس: هو كمن لم يطف، وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود وغيرهم من أهل العلم، وقالوا: عليه أن يرجع من حيث كان، يطوف من وراء الحجر) «3».

وقال الشافعي: (وإكمال الطواف بالبيت من وراء الحجر ووراء شاذروان

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 84

الكعبة، فإن طاف بالبيت وجعل طريقه من بطن الحجر أعاد) «1».

وعن ابن عباس: (من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر) «2».

وليس ذلك إلّالكون الحجر من تلك الآيات التي عرّف اللَّه عزّ وجلّ بيته المبارك بها، والطواف فيه نوع من المدارية والمحورية للكعبة الشريفة، فحينما يتمحور الحاج ويدور ويطوف حول الكعبة التي تشرّفت بحجج اللَّه وآياته، فإن ذلك معناه أن تلك الآيات هي الأبواب إلي اللَّه عزّ وجلّ وبها يعبد ويقصد ويتوجّه إليه.

فإسماعيل وهو نبيّ من الأنبياء علي ملّة أبيه إبراهيم حنيفاً مسلماً، ويعلم أن الكعبة أوّل بيت وضع للناس كافّة ولجميع الأجيال مناراً للعبادة والطهارة والتوحيد، مع ذلك قام ببناء قبر لأمّه، وهي وليّة من الأولياء، مع سبعين نبياً من الأنبياء، وجعل الطواف كما هو طواف بالكعبة طواف بقبر أمه وكذا قبره وقبر سبعين أو أكثر من الأنبياء.

والقرآن يأتي بعد ذلك ويقرّ هذه الحقيقة ويجعلها من الأمور التربوية للمسلمين، فيقول إن هذا البيت معرفته وشرفه أنه فيه آيات بيّنات، هي قبور الأنبياء والأولياء.

ففي تشريع الملّة الحنيفية أن قبور الأنبياء تقصد ويتوجّه إليها ويطاف بها، وهذا من التوحيد التام، لا سيما وأن اللَّه عزّ وجلّ أمر إبراهيم وإسماعيل بتطهير

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 85

البيت من الشرك والمشركين، قال تعالي: «وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ

وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» «1»

ومن تشريعات الملّة الحنيفية، التي توجب الطهارة من الشرك والتشرف بمعالم التوحيد ويكون ذلك البيت أعظم وأطهر مسجد في الأرض يُعبد فيه اللَّه تعالي، هي الآيات البيّنات، قبر إسماعيل وهاجر وعدد كبير من الأنبياء، ويكون الطواف كما هو طواف بالكعبة طواف بالقبور والآيات، التي بها كان البيت طاهراً من الشرك ومباركاً وهدي للعالمين.

إذن الطواف الذي هو صلاة لابدّ أن يتوجّه فيه إلي القبور، ولابدّ من الدخول إلي البيت من أبوابه وإلّا كان الطواف باطلًا، ولم يكن البيت هدي للعالمين، هذه هي الملّة الحنيفية.

المستجار أو الملتزم: … ص: 85

هذه هي الآية الثالثة من آيات المسجد الحرام، وهذه الآية الإلهية في نفس جدار الكعبة مما يقرب من الركن اليماني ويقابل من جهته الأخري باب الكعبة، الذي يقرب من الحجر الأسود، وفي نصوص الفريقين يستحب التزام الكعبة وأن يستجير الداعي باللَّه تعالي في ذلك المكان.

أما الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام فهي كثيرة جدّاً:

فعن معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «إذا فرغت من طوافك وبلغت مؤخّر الكعبة وهو بحذاء المستجار دون الركن اليماني بقليل فابسط يديك وألصق بدنك وخدّك البيت، وقل: اللّهمّ البيت بيتك والعبد عبدك وهذا مكان

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 86

العائذ بك من النار، ثم أقرّ لربّك بما عملت، فإنه ليس من عبد مؤمن يقرّ لربّه بذنوبه في هذا المكان إلّاغفر اللَّه له إن شاء اللَّه» «1».

كذلك عنه عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «لما طاف آدم بالبيت وانتهي إلي الملتزم، قال له جبرئيل: يا آدم أقرّ لربّك بذنوبك في هذا المكان- إلي أن قال- فأوحي اللَّه إليه يا آدم قد غفرت لك ذنبك، قال: يا ربّ ولولدي أو لذريتي، فأوحي اللَّه

عزّ وجلّ إليه: يا آدم من جاء من ذريتك إلي هذا المكان وأقرّ بذنوبه وتاب كما تبت ثم استغفر غفرت له» «2».

وغيرها من الروايات في هذا المجال.

وقال الشربيني في مغني المحتاج: (الدعاء يستحبّ في خمسة عشر موضعاً بمكة: في الطواف، والملتزم، وتحت الميزاب، وفي البيت، وعند زمزم، وعلي الصفا والمروة، وفي السعي، وخلف المقام، وفي عرفات، ومزدلفة، ومني، وعند الجمرات الثلاث) «3».

وفي حواشي الشرواني، أخرج ذلك عن الحسن البصري «4».

والمضمون ذاته جاء في مواهب الجليل للحطّاب الرعيني «5».

وقال الشافعي: (وأُحبّ له إذا ودّع البيت أن يقف في الملتزم، وهو بين الركن والباب، فيقول: اللّهمّ إن البيت بيتك والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 87

حملتني علي ما سخّرت لي من خلقك، حتي سيّرتني في بلادك وبلّغتني بنعمتك، حتي أعنتني علي قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عنّي فازدد عنّي رضاً، وإلّا فمن الآن قبل أن تنأي عن بيتك داري) «1»، وقال النووي بعد ذكره لهذا الدعاء: (واتفق الأصحاب علي استحبابه) «2».

وقال النووي أيضاً عندما ذكر الملتزم: (سمّي بذلك لأن الناس يلزمونه عند الدعاء) «3».

وقال أيضاً: (قال القاضي أبو الطيّب في تعليقه: قال الشافعي في مختصر كتاب الحجّ: إذا طاف للوداع استحبّ أن يأتي الملتزم فيلصق بطنه وصدره بحائط البيت ويبسط يديه علي الجدار، فيجعل اليمني مما يلي الباب واليسري مما يلي الحجر الأسود، ويدعو بما أحب من أمر الدنيا والآخرة إلي أن قال وعن ابن عباس: أنه كان يلتزم ما بين الركن والباب، وكان يقول ما بين الركن والباب يُدعي الملتزم، لا يلزم ما بينهما أحد يسأل اللَّه عزّ وجلّ شيئاً إلّاأعطاه إيّاه) «4».

وأخرج البيهقي في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن

جدّه: (رأيت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يُلزق وجهه وصدره بالملتزم) «5».

وكذا أخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «ما بين الركن والمقام

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 88

ملتزم ما يدعو به صاحب عاهة إلّابرأ» «1».

فالمستجار والملتزم معلم من معالم الطواف والكعبة، وهو الموضع الذي انشقّ الجدار منه لفاطمة بنت أسد رضوان اللَّه عليها، عندما أخذها الطلق بسيّد الأوصياء عليه السلام، حيث استجارت بالكعبة الشريفة من ذلك الموضع، فانشقّ لها الجدار ودخلت الكعبة وولدت أمير المؤمنين عليه السلام فيها، كما نصّت علي هذه الملحمة التأريخية كتب الحديث والسير والتواريخ من الفريقين:

أخرج الصدوق في علل الشرائع بسنده عن سعيد بن جبير قال: (قال يزيد بن قعنب كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزّي بإزاء البيت الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين عليه السلام وكانت حاملة به تسعة أشهر، وقد أخذها الطّلق، فقالت: ربّ إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل عليه السلام وإنه بني البيت العتيق، فبحقّ الذي بني هذا البيت وبحقّ المولود الذي في بطني لما يسّرت عليّ ولادتي، قال يزيد بن قعنب فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من اللَّه تعالي، ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين عليه السلام إلي آخر القصة-) «2».

وقال الحاكم النيسايوري في مستدركه: (تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 89

ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه في جوف الكعبة) «1».

وقال ابن الصباغ

المالكي: (ولد عليّ عليه السلام بمكة المشرّفة بداخل البيت الحرام إلي أن قال: ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه، وهي فضيلة خصّه اللَّه تعالي بها إجلالًا له وإعلاءً لمرتبته وإظهاراً لتكرمته) «2».

وهذه آية آخري وشعيرة أخري من شعائر البيت الحرام، حيث يتأسّي الطائف ويتوسل ويتبرّك بموضع له صلة بأمير المؤمنين وأمه فاطمة بنت أسد، من أجل قبول الدعاء وغفران الذنوب.

السعي بين الصفا والمروة: … ص: 89

قال اللَّه عزّ وجلّ: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا» «3»

، والصفا والمروة محلّ هبوط آدم وحوّاء ولبركة هبوطهما جُعلا من شعائر اللَّه وآياته، وسمّيا بهذين الاسمين، لهبوط آدم وحوّاء عليهما، حيث ورد في الروايات أن آدم لما نزل علي الصفا وهو صفيّ اللَّه تعالي سُمّي الصفا، ولما نزلت حوّاء علي المروة سُمّيت مروة؛ لأنها مرأة فاشتقّ منها مروة.

وأما في تشريع السعي بين الصفا والمروة فورد أن هاجر سعت بين الصفا والمروة لاستطلاع وجود الماء سبع مرات فشرّع كذلك.

وإليك بعض تلك الروايات:

عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: «إن آدم عليه السلام لما هبط إلي الأرض أُهبط علي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 90

الصفا ولذلك سُمّي الصفا؛ لأن المصطفي هبط عليه، فقطع للجبل اسم من اسم آدم، يقول اللَّه عزّ وجلّ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ» «1»

، وأُهبطت حوّاء علي المروة، وإنما سُمّيت المروة لأن المرأة هبطت عليها، فقطع للجبل اسم من اسم المرأة، وهما جبلان عن يمين الكعبة وشمالها» «2».

كذلك عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إن إبراهيم عليه السلام لما خلّف إسماعيل بمكّة عطش الصبي، وكان فيما بين الصفا والمروة شجر، فخرجت امه حتي

قامت علي الصفا، فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، فمضت حتي انتهت إلي المروة، فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، ثم رجعت إلي الصفا، فقالت كذلك حتي صنعت ذلك سبعاً فأجري اللَّه ذلك سنّة» «3».

وعن ابن عباس في حديثه عن هاجر أم اسماعيل قال: (ثم جاء بها إبراهيم عليه السلام وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتي وضعهما عند البيت وليس بمكّة يومئذٍ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفي إبراهيم منطلقاً إلي أن قال:

فجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتي إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجاع، وجعلت تنظر إليه يتلوّي أو قال: يتلبّط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل تري أحداً، فهبطت من الصفا حتي إذا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 91

بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الانسان المجهود، حتي جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل تري أحداً فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال النبيّ صلي الله عليه و آله: فلذلك سعي الناس بينهما) «1».

إذاً بسبب الأنبياء والأصفياء والأولياء، كآدم وإسماعيل وحوّاء وهاجر جعل منسك السعي بين الصفا والمروة من مناسك الحجّ والتوحيد.

والباري تعالي عبّر عن هذه الآية بأنها من شعائر اللَّه، وهو ذات التعبير بكونها آيات بيّنات، أي محلّ هداية للعالمين وآية وعلامة وشعيرة بيّنة من معالم التوحيد.

فالمسجد الحرام والبيت الشريف بورك به وكانت له تلك المنزلة الرفيعة؛ لما حلّ فيه من الوسائل والوسائط والآيات والشعائر الهادية إلي التوحيد، وهم الأنبياء والأصفياء ومقاماتهم، التي أصبحت أقرب الوسائل إلي

اللَّه عزّ وجلّ ببركتهم؛ لكونهم كلمات اللَّه وأسمائه التي يتوجّه بها إليه عزّ وجلّ.

بئر زمزم: … ص: 91

من الأمور التي سنّها اللَّه عزّ وجلّ بعد طواف الحجّ الشرب من ماء زمزم، الذي نبع ببركة هاجر وإسماعيل عليه السلام، فأصبح من أعمال الحجّ الندبية.

فهو من توابع البيت الحرام وآية من آياته؛ لما له من الصلة بهاجر وإسماعيل.

أخرج البخاري عن ابن عباس في معرض حديثه عن هاجر أمّ إسماعيل:

(فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال بجناحه- حتي ظهر

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 92

الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها عيناً معنياً، قال: فشربت وأرضعت ولدها) «1».

وأما من طرقنا فقد أخرج القمي في تفسيره، أن هاجر لما سعت سبعة أشواط: (فلمّا كان في الشوط السابع وهي علي المروة نظرت إلي إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجله، فعادت حتي جمعت حوله رملًا، فإنه كان سائلًا فزمّته بما جعلته حوله؛ فلذلك سُمّيت «زمزم») «2».

أعمال الحجّ ومناسكه: … ص: 92

لا ريب أن من لاحظ روايات الفريقين يجدها متّفقة علي أن أعمال الحجّ كلّها لها صلة وثيقة في تشريعها بأنبياء اللَّه ورسله، فسُمّيت عرفة بهذا الإسم لاعتراف النبيّ آدم وإبراهيم عليه السلام بذنوبهما «3»، وما يأتي به الحجّاج في يوم عرفة تأسّياً بما جاء به الأنبياء، كآدم وإبراهيم عليه السلام، وكذا سمّيت المزدلفة بذلك؛ لأن آدم وإبراهيم ازدلفا من عرفات ليقترّبا إلي البيت الحرام ويكون ذلك قُرباً حسّياً كناية عن القرب المعنوي، ومني أيضاً سُمّيت بهذا الاسم، إما لدعاء آدم وإبراهيم عليهما السلام وطلبهما لما يأملان، أو لأجل طلبهما التطهّر من الأماني الباطلة،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 93

كذلك الجمرات جعلت منسكاً لرمي آدم وإبراهيم عليهما السلام الشيطان في تلك المواضع.

إذن الحجّ بكلّ أجزائه ومناسكه ومواطنه متعلّق ومتلوّن بأفعال الأنبياء والأولياء وأسمائهم، فهم أبواب بيت اللَّه وآياته

البيّنات وشعائره الباسقات، فإذا أراد الحاج والموحّد أن يسلك السبيل إلي اللَّه عزّوجلّ لابدّ أن يسلك ما سلكه أنبياء اللَّه ورسله ويحاذي في فعله سيرهم وسلوكهم، ويتوسل إلي اللَّه عزّ وجلّ في تلك المواضع التي سُمّيت بأسماءالأنبياء وأفعالهم، تذكيراًبهم وإحياءاً لأمرهم وتأكيداً علي أن القصد والتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ لا يُسلك إلّا بحجج اللَّه ورسله.

والحاصل: أن الحجّ بمجموعه آية بيّنة علي أن العبد لا يمكنه أن يفد علي اللَّه تعالي إلّابالتوسل بذوات الأنبياء وأفعالهم وما يتصل بهم؛ لكونهم شعائر اللَّه وأبوابه، التي لا سبيل للقصد إلي اللَّه عزّ وجلّ إلّابها.

فائدة: … ص: 93

مما ذكرنا سابقاً من ضرورة التمسّك بالآيات والحجج، لحصول البركة والطهارة والهداية والوفود علي اللَّه تعالي، يظهر المعني المراد من الروايات، التي نصّت علي أن زيارة النبيّ صلي الله عليه و آله وزيارة المعصوم والإقرار بالولاية له بعد إتمام مناسك الحجّ هي الطهارة العظمي، وأن قضاء التفث له معني تأويلي غير المعني التنزيلي هو لقاء الإمام المفروض الطاعة والإقرار له بالولاية، وذلك لأنه باب اللَّه الذي منه يؤتي والآية البيّنة التي لا يقبل عمل إلّابالتوسل بها.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 94

أخرج الصدوق بسنده عن عبد اللَّه بن سنان عن ذريح المحاربي، قال: «قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إن اللَّه أمرني في كتابه بأمر فأحبّ أن أعلمه، قال عليه السلام: وما ذاك؟ قلت: قول اللَّه عزّ وجلّ: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» «1»

قال: «لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» لقاء الإمام «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» تلك المناسك» «2».

قال عبد اللَّه بن سنان: «فأتيت أبا عبد اللَّه عليه السلام فقلت: جعلت فداك قول اللَّه عزّ وجلّ: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ»؟ قال عليه السلام: أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك، قال:

قلت: جعلت فداك فإن ذريحاً المحاربي حدّثني عنك أنك قلت له: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» لقاء الإمام «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» تلك المناسك؟ فقال: صدق ذريح، وصدقت، إن للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح؟» «3».

فلابدّ من الورود علي الإمام المعصوم المفروض الطاعة، للطهارة من الشرك والهداية إلي التوحيد.

4- التوجّه إلي القبلة طاعة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله: … ص: 94

قال تعالي: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَي الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ» «4».

فإن هذه الآية المباركة صريحة في أن استقبال الكعبة المكرمة أو بيت

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 95

المقدس، لم يكن الغرض منه نفس بيت المقدس أو الكعبة بما هي، بل من أجل استعلام الطوعانية والانصياع إلي سيّد الرسل صلي الله عليه و آله، وهي بدورها تؤدّي إلي طاعة اللَّه تعالي.

إذن لابدّ من توسيط ولاية النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وطاعته في قبول العبادة، والاستكبار عليه وعدم الانصياع إلي أوامره بالاعتراض علي القبلة التي يأمر بالتوجهّ إليها في العبادة اعتبرته الآية المباركة كفراً وارتداداً وانقلاباً علي الأعقاب، كما فعلت ذلك قريش عندما اعترضت علي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله بجعله بيت المقدس قبلة يتوجّه إليها في العبادة، واتهمته بأنه هوّد فتيان قريش.

5- المودّة لذريّة إبراهيم 7 من شرائط الحجّ وغاياته: … ص: 95
اشارة

قال تعالي: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «1».

هذه الآية المباركة من آيات الحجّ، التي تتعرّض لبيان ركن هامّ من أركان مناسك الحجّ أو العمرة.

بيان ذلك:

إن هذه الآيات القرآنية المباركة نصّت علي أن إبراهيم عليه السلام جاء بذريّته

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 96

وأسكنها البيت الحرام بكلّ ما أحاط بذلك الإسكان من ملابسات وعناء ومشقّة ووحشة وغربة وجوع وعطش بلا أنيس أو كفيل لتلك الذريّة الطاهرة سوي اللَّه تعالي امتثالًا لأمر

اللَّه عزّ وجلّ؛ لغايتين إلهيتين شريفتين، اقتضتهما الحكمة الإلهية من ذلك الإسكان، إحداهما غاية متوسّطة والأخري غاية قصوي ونهائية تترتب علي إسكان الذريّة إلي جنب المسجد الحرام:

الغاية الأولي: قول إبراهيم عليه السلام: «رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة»، والمراد من ذلك عمارة المسجد الحرام وتشييد معالم الدين وأركان التوحيد، وذلك بإقامة الصلاة والطواف والسعي وبقيّة مناسك الحجّ وكافّة العبادات وجميع الشعائر الإلهية، والصلاة إنما ذكرت في الآية المباركة مثالًا لهذه الغاية.

وحاصل هذه الغاية هو جعل المركزية للكعبة المشرّفة في التوجّه إلي اللَّه تعالي لإقامة الدين ومناسك العبادة.

ولكن هذه الغاية غير كافية ولا مقبولة عند اللَّه عزّ وجلّ ما لم تتحقّق الغاية النهائية، التي أراد اللَّه تعالي تحقّقها من ذلك الإسكان.

الغاية الثانية: قول إبراهيم عليه السلام: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «1»

فإن الفاء في قوله عليه السلام «فَاجْعَلْ» للتفريع، وذلك لبيان أن لعمارة المسجد الحرام وإقامة الصلاة والحجّ وشعائر الدين غاية أخري لابدّ من تحقّقها، وهي أن تهوي القلوب تلك الذريّة الطاهرة، التي أسكنها عند المسجد الحرام.

إذن لابدّ أن يكون التوجّه إلي اللَّه تعالي في العبادات والشعائر الدينية بالكعبة المشرّفة، التي جعل إبراهيم عليه السلام لها المركزية والمحورية، بإسكان ذريّته فيها

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 97

لإقام الصلاة، وكذا بالذريّة الطاهرة عن طريق هويّ القلب ومحبّتهم ومودّتهم والرجوع إليهم.

فالناس إذا توجّهوا إلي بيت اللَّه الحرام وجعلوه قبلة ومركزاً ومحوراً في مناسكهم العبادية، لابدّ أن يتوجّهوا أيضاً إلي الذريّة ويستعرضوا لهم المودّة والنصرة والطاعة والموالاة.

ومن ذلك يتضح أن هذه الآية المباركة من آيات المودّة في القربي، ولا يمكن فصل هذه الآية الكريمة عن الآيات التي ترسم ماهية الحجّ، فغاية الحجّ ومركزية مكّة لمعالم الدين محبّة تلك الذريّة وولايتهم، والمحبّة والولاية من

شرائط الحجّ الغائية وكذا من شرائط استقبال الكعبة وقبول العبادات، فالولاية ركن من معالم الدين.

وإن عزل الحج عن مبدأ الولاية والمودّة في القربي يكون وثناً من الأوثان وشركاً من فعال الجاهلية.

والحاصل: إن الغاية من إسكان الذريّة المباركة في البيت المحرم جعل المحورية والمركزية إلي مكّة المكرمة والذريّة الطاهرة، فلا صلاة ولا حجّ من دون التوجّه إلي الكعبة، ولا قيمة للتوجّه إلي الكعبة ما لم يعقبة الإزدلاف إلي الذريّة والمودّة في القربي.

من هم الذريّة الذين تهواهم أفئدة الحجاج والطائفين والركّع السجود؟ … ص: 97

بعد أن تبين من الآية المذكورة أن مودّة وولاية الذريّة التي أسكنها إبراهيم عند المسجد الحرام ركن من أركان الدين وشرط في قبول العبادات، لابدّ من

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 98

التعرّف علي تلك الذريّة لكي يحرز الشخص دينه وعبادته بالتوجّه إليها ومودّتها.

وفي هذا المجال نقول:

إن هذه الذريّة من نسل إسماعيل، وهي الأمة المسلمة، التي جعلها اللَّه عزّ وجلّ كلمة باقية في عقب إبراهيم وإسماعيل عليه السلام لا تشرك باللَّه عزّ وجلّ طرفة عين في كلّ زمان.

قال تعالي: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «1»

، ولا شك أن هذه دعوة مستجابة من إبراهيم وإسماعيل عليه السلام تكشف عن وجود بعض من ذريتهما وهي الأمة المسلمة بدرجة من الإسلام والتسليم التي نالها إبراهيم وإسماعيل، وهي ذرية باقية في عقبهما لا تشرك باللَّه تعالي أبداً، معصومة لها الولاية والإمامة علي الناس؛ لأنها هي الذريّة الإبراهيمية التي طلب إبراهيم عليه السلام لها الإمامة، كما في قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي

الظَّالِمِينَ» «2».

وهذه الأمة المسلمة هي التي يُبعث فيها خاتم النبيين، الذي هو دعوة إبراهيم وإسماعيل، حيث قالا: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 99

أخرج ابن المغازلي في كتابه المناقب، بإسناده إلي عبد اللَّه بن مسعود، قال:

قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «أنا دعوة أبي إبراهيم»، قلت: يا رسول اللَّه وكيف صرت دعوة إبراهيم أبيك؟ قال: أوحي اللَّه عزّ وجلّ إلي إبراهيم «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» فاستخفّ إبراهيم الفرح، فقال: يا ربّ ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إليه: أن يا إبراهيم إني لا أُعطيك عهداً لا أفي لك به، قال: يا ربّ ما العهد الذي لا تفي لي به؟ قال: لا أعطيك عهداً لظالم من ذريتك، قال: يا ربّ ومن الظالم من ولدي الذي لا ينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً ولا يصلح أن يكون إماماً، قال إبراهيم: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ» «1»

قال النبيّ صلي الله عليه و آله: فانتهت الدعوة إليّ وإلي أخي عليّ لم يسجد أحدنا لصنم قطّ، فاتخذني اللَّه نبيّاً واتخذ عليّاً وصيّاً» «2».

وأخرج العياشي في تفسيره عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام، قال: «قلت له: أخبرني عن أمة محمّد عليه الصلاة والسلام مَن هم؟

قال: أمة محمّد بنو هاشم خاصّة، قلت: فما الحجّة في أمّة محمّد أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟

قال: قول اللَّه: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً

مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «3»

، فلما أجاب اللَّه إبراهيم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 100

وإسماعيل وجعل من ذريّتهم أمة مسلمة وبعث فيها رسولًا منها، يعني من تلك الأمة، يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، ردف إبراهيم عليه السلام دعوته الأولي بدعوته الأخري، فسأل لهم تطهيراً من الشرك ومن عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم ولا يتبعوا غيرهم، فقال: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «1»

، ففي هذه دلالة علي أنه لا تكون الأئمة والأمة المسلمة التي بعث فيها محمّداً صلي الله عليه و آله إلّامن ذرية إبراهيم لقوله: «اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ»» «2».

ولذا قال الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالي: «إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ»: «نحن منهم، ونحن بقية تلك الذريّة» «3».

ويشير إلي الذرية أيضاً قوله تعالي: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ» «4»

فهذه الأمة التي هي بعض من ذرية إبراهيم وإسماعيل التي بعث فيها خاتم النبيين وهم علي صلة منه وقد سمّاهم النبي إبراهيم وإسماعيل قبل ولادتهم بالمسلمين.

والحاصل: إن الآيات والروايات تصرّح بأن ذريّة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام طائفة خاصّة طهّرها اللَّه عزّ وجلّ وأذهب عنها الرجس وجعل فيها الإمامة، وطلب إبراهيم عليه السلام لهذه الذريّة المودّة والمحبّة وهويّ الإفئدة إليها، وهذه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 101

الذريّة هم الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، فبهم يتقرّب ويتوسل إلي اللَّه عزّ وجلّ، وبمودّتهم وولايتهم

تقبل الطاعات، ومحبّتهم ركن ركين في الدين، لا يعرض عنه إلّاكافر أو مشرك، ومن هنا جعل النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله عدل الرسالة وأجرها المودّة في القربي كما في قوله تعالي: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «1».

ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلّا فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند اللَّه تعالي، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت عليهم السلام.

ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه السلام: «تمام الحجّ لقاء الإمام» «2».

وكذا قول الإمام الصادق عليه السلام: «ابدؤوا بمكّة واختموا بنا» «3».

وقول الإمام الباقر عليه السلام: «إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم» «4».

وكذا قال عندما رأي الناس يحجّون بمكّة: «فعال كفعال الجاهلية، أما واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلّاأن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم» «5».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 102

6- الولاية من شرائط المغفرة: … ص: 102
اشارة

قال تعالي: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «1»

، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلّابشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة؛ لأنها تعني الإيصال إلي المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط.

فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» «2».

وأما مقام الإمامة فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالي: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا

صَالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «3»

، وقال أيضاً عزّ وجلّ: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» «4»

، فوصف اللَّه عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.

كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر، قال تعالي في حقّه: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَي النَّارِ» «5»

، فإمامة الكفر أيضاً فيها

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 103

هداية وإيصال، ولكن إلي الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني؛ ولذا قال تعالي: «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَي» «1».

فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلي المطلوب وولاية علي الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من اللَّه عزّ وجلّ، كما يستفاد من قوله تعالي: «يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا».

وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلي الضلال وخلاف المقصود.

والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة بقول مطلق يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية.

وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولي والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم، لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالي: «آمَنَ» إشارة إلي الشهادة الأولي والثانية، وقوله «وَعَمِلَ صَالِحًا» إشارة إلي الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: «ثُمَّ اهْتَدَي» إشارة إلي ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة، وهي الولاية والإمامة.

سورة الحمد وإمامة أهل البيت عليهم السلام: … ص: 103

وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت عليهم السلام واسطة ووسيلة يتوسل بها العبد إلي اللَّه عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات علي أقل تقدير.

فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولي والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 104

فقوله تعالي: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَنِ

الرَّحِيمِ» «1»

إشارة إلي الشهادة الأولي، وهي كلمة (لا إله إلّااللَّه)، وقوله تعالي: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» «2»

إشارة إلي أصل المعاد، الذي هو من أصول الدين، وقوله تعالي: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» «3»

إشارة إلي مقام التشريع والنبوّة؛ لأن العبادة لا تتحقّق إلّابالسير علي خطي النبوّة والرسالة.

وقوله تعالي: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» «4»

، إشارة إلي مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الاسلامية ندعو اللَّه عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم، أي صراط المعصومين علماً وعملًا، وهؤلاء الهداة الهادون إلي الصراط المستقيم وصفهم اللَّه تعالي بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منعم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم اللَّه علي النبيين.

الثاني: أنهم لا يغضب اللَّه عليهم قطّ، وإلّا لما كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلّا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 105

إلهية خاصة دون بقية الأمة إلّاأهل البيت عليهم السلام كما في ولاية الفي ء في قوله تعالي:

«مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي» «1»

وكما في ولاية الخمس في قوله تعالي: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي» «2»

، وكذا التطهير في قوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «3»

والمودّة والولاية في قوله تعالي: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «4»

وقوله تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» «5»

وعلم الكتاب في قوله تعالي:

«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «6»

وغيرها من الآيات المخصصة لهم عليهم السلام بمقامات دون سائر الأمة إلي يوم القيامة، فلا توجد مجموعة في الأمة الإسلامية معصومة عن الغضب والضلال سوي أهل البيت عليه السلام، الذين أنعم اللَّه عزّ وجلّ عليهم بالطهارة من الرجس والغواية في العلم والعمل، كما قال تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «7».

ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت علي أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من اللَّه تعالي الهداية إلي الصراط

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 106

المستقيم وأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم، وهذا يعني أن ضمّ الشهادة الثالثة بالإمامة إلي الشهادة الثانية بالرسالة والنبوّة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله يوجب الخروج عن الشرك وقبول الإيمان والعبادة.

ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه السلام لسدير وهو مستقبل البيت: «يا سدير إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «1»

ثم أومأ إلي صدره إلي ولايتنا» «2».

إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلي ولاية أهل البيت عليهم السلام والتوسّل والتوجّه بهم إلي اللَّه عزّ وجلّ.

7- الوفود علي ولي اللَّه من شرائط الحجّ: … ص: 106

قال تعالي: «وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَاتُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود* وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَي كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» «3».

فهذه الآية المباركة تنصّ علي أن اللَّه عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم عليه السلام، وأن إبراهيم عليه السلام هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن اللَّه تعالي في الندبة

إلي الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت اللَّه الحرام كما نصّت علي ذلك روايات الفريقين.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 107

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحجّ «يَأْتُوكَ رِجَالًا» فالمجي ء ليس إلي البيت ولا إلي اللَّه عزّ وجلّ مباشرة، بل المجي ء أوّلًا إلي إبراهيم عليه السلام.

فالإتيان إلي الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة علي وليّ اللَّه، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلي اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلي إبراهيم عليه السلام، الذي هو وجيه عند اللَّه تعالي، يتوجّه إليه ويقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود علي إبراهيم عليه السلام ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالي:

«رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «1»

، فإبراهيم عليه السلام وذرّيته أسكنهم اللَّه عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند اللَّه عزّ وجلّ إلّابالمجي ء إلي إبراهيم عليه السلام وذريّته من ولد إسماعيل عليه السلام، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلي اللَّه تعالي.

فتبوي اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 108

عزّ وجلّ، كما كان الحجّ في الجاهلية.

ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلي البيت الحرام

إلقاء التحيّة والسلام علي سيّد الأنبياء محمّد صلي الله عليه و آله ثم السلام علي النبيّ إبراهيم عليه السلام «1».

فعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «فإذا انتهيت إلي باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسلام علي أنبياء اللَّه ورسله والسلام علي رسول اللَّه، والسلام علي إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين» «2».

فالمجي ء إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله ثم إلي إبراهيم عليه السلام مجي ء وإتيان وقصد إلي اللَّه عزّ وجلّ، وكذا أهل البيت عليهم السلام؛ لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلي مودّتهم ومحبّتهم.

إذن الأنبياء والأوصياء هم أبواب اللَّه التي يتّجه إلي اللَّه تعالي بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً بل حجّ الجاهلية.

8- الأنبياء مصدر البركة: … ص: 108

قال تعالي حكاية عن قول عيسي عليه السلام: «وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا» «3».

وهذا يعني أن عيسي عليه السلام جعله اللَّه عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حلّ؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتي بإذن اللَّه تعالي، فهو

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 109

وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كلّ مكان حلّ فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء عليه السلام وأهل بيته الأطهار ومن يصلّي عيسي خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟!

وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ» «1»

، فإذا كان اللَّه تعالي ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه الأوصياء؟!

9- البقعة المباركة: … ص: 109

وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيها موسي عليه السلام:

كقوله تعالي: «وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَي* إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَي النَّارِ هُدًي* فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَي* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًي» «2».

وقوله تعالي: «هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَي* إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًي» «3»

. وكذا قوله تعالي: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَي إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا* وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا» «4».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 110

وقوله عزّ وجلّ: «فَلَمَّا قَضَي مُوسَي الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ* فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِي ءِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي

الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَي إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» «1».

وقد أقسم اللَّه عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة، لعظمتها بالإضافة إلي بقع ثلاث أخري، وذلك في قوله تعالي، «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» «2»

، وهذا قسم من اللَّه عزّ وجلّ ببلد التين وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم عليه السلام، حيث قال: «واختار من البلدان أربعة فقال عزّ وجلّ: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» «3»

فالتين المدينة والزيتون بيت المقدس وطور سنين الكوفة وهذا البلد الأمين مكّة» «4».

هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيه موسي عليه السلام «5»، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة، كما ذكر ذلك بعض

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 111

المفسّرين.

وقد ورد في الحديث أن محلّ قبر أمير المؤمنين عليه السلام أوّل طور سيناء، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام: أن أخرجوني إلي الظهر [أي ظهر الكوفة] فإذا تصوّبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح فادفنوني، وهو أوّل طور سيناء، ففعلوا ذلك» «1».

والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي علي موسي عليه السلام، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلي اللَّه عزّ وجلّ ويكلّم اللَّه تعالي فيها الأنبياء.

قال القرطبي في تفسيره: (قوله تعالي: «إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًي» «2».

المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة إلي أن قال: وقد جعل اللَّه تعالي لبعض الأماكن زيادة فضل علي بعض، كما قد جعل لبعض

الأزمان زيادة فضل علي بعض) «3».

وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ.

10- وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة: خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور … ص: 111
اشارة

قال تعالي: «اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 112

شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ* فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ» «1».

إن هذه الآية المباركة تنصّ علي وجود بيوت خاصّة أذن اللَّه أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح للَّه عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلي اللَّه تعالي، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها اللَّه تبارك وتعالي وسيلة وواسطة ومحلّاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة.

والشاهد علي ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالي: «فِي بُيُوتٍ» متعلّق بذلك النور الذي ضربه اللَّه عزّ وجلّ مثلًا للناس، فالنور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات اللَّه تعالي، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلي فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب

اللَّه تعالي لكلّ واحد منها مثلًا حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلي رقيقة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 113

يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية، لأنها أحدية المعني لا تعدّد ولا تكثّر فيها، والنور المذكور في الآية المباركة متعدّد منشعب إلي خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلًا هي:

أولًا: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدريّ.

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: «نُورٌ عَلَي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ».

وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنيً ومغزيً مستقلًا، فالآية بصدد التعرض إلي خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكة والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخري، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض اللَّه تعالي لها علي الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 114

ووصفها اللَّه بأنها غيب السماوات والأرض «1»، وكما ورد هذا المعني في روايات الفريقين «2».

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها اللَّه تعالي آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور، كما عبّر

عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الاشارة (هؤلاء) وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن اللَّه تعالي شرّف آدم علي جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كلّ شي ء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 115

علي الشي ء، بل هو نور الخلقة الذي يوجد الشي ء ويكوّنه ويظهره من كتم العدم إلي الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتهما وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلي نور الوجود، وهو اسم اللَّه الأعظم الذي هو غير المسمّي، يفوق في القدرة والعظمة كافّة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة- وهي الأسماء التي علّمها اللَّه تعالي آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلي بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة- هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة، محمّد صلي الله عليه و آله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، لتكون محلّاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: «قرأ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله هذه الآية «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» فقام

إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه هذا البيت منها؟ وأشار إلي بيت عليّ وفاطمة عليهم السلام، قال:

نعم من أفاضلها» «1».

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» قال: «هي بيوت النبيّ صلي الله عليه و آله» «2».

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، في قوله: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 116

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» قال: «هي بيوت الأنبياء، وبيت علي منها» «1».

وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب اللَّه بها علي آدم، وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها علي الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم؛ إذ بها تاب اللَّه عليه، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين صلي الله عليه و آله، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لما خلق آدم ولا الجنة ولا النار «2» ويتشاهد هذان الحديثان النبويان علي أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين صلي الله عليه و آله.

هذا بالنسبة إلي الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه السلام في آية النور: … ص: 116

وأما قوله تعالي: «نُورٌ عَلَي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ» فهو إشارة إلي استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلي يوم القيامة، نور علي نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء و (علي) أي علي إثر وعقب لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (علي) بالتضمين لمعني الإثر.

والشاهد علي ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلي المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة

والولاية، كما في قوله تعالي:

«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا»، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة وهو مقتضي معني النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلي صراط اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 117

ولذا ورد عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين عليه السلام في قوله تعالي: «نُورٌ عَلَي نُورٍ» قال: «يعني إماماً مؤيّداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلي الله عليه و آله، وذلك من لدن آدم إلي يوم القيامة» «1».

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام، قال: (قلت: «نُورٌ عَلَي نُورٍ»؟ قال: «الإمام في أثر الإمام» «2».

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسي الرضا عليه السلام في قوله تعالي: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ» قال: «يهدي لولايتنا من أحبّ» «3».

بيان آخر للآية المباركة … ص: 117

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ علي المطلوب من البيان الأول، وهو:

بعد أن تبيّن أن قوله تعالي: «فِي بُيُوتٍ» متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، نقول:

إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالي: «رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ» هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالي ذكره «فِي بُيُوتٍ»، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت.

ويكون المعني علي ذلك! أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 118

بيوت حجارة ولا طين.

والشواهد علي ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلي بعضها:

أ- قوله تعالي: «رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ» ليس فاعلًا لقوله عزّ وجلّ «يُسَبِّحُ» وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليه السلام، حيث أن قراءتهم لكلمة (يسبَّح) بفتح الباء مبني

للمجهول، وبناءً علي هذا لا تكون كلمة «رِجَالٌ» فاعلًا ل (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل علي بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلي ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام إلي قتادة البصري فقيه أهل البصرة عندما سأله قائلًا:

(أصلحك اللَّه، واللَّه لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك؟

فقال أبو جعفر عليه السلام: «ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي «بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ» فانت ثَمَّ، ونحن أولئك»، فقال له قتادة: صدقت واللَّه جعلني اللَّه فداك، واللَّه ما هي بيوت حجارة ولا طين» «1».

وكذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام، حيث قال: «إنّه من أتي البيوت من أبوابها اهتدي ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردي، وصل اللَّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله صلي الله عليه و آله وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند اللَّه «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» والتمسوا البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 119

أخبركم أنهم «رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ»» «1».

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص «2».

إذن يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

أهل البيت عليهم السلام معصومون بأعالي درجات العصمة: … ص: 119

ب- قوله عزّ وجلّ: «لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ» فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلي أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلي درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح، إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر اللَّه، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبيّ صلي الله عليه و آله، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة، كما نصّت علي هذه الحادثة سورة الجمعة، وذلك في قوله تعالي: «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» «3».

ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله إلّاإثني عشر أو ثمانية رجال،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 120

وانفضّ الباقون إلي اللّهو والتجارة «1».

وفي بعض الروايات لم يبقَ إلّاعلي عليه السلام «2».

ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلي درجات العصمة والطهارة.

وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر اللَّه عزّ وجلّ، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

وتلك البيوت والرجال أذن اللَّه أن يرفع ذكرهم، كما قال اللَّه تعالي لنبيّه:

«وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ»، ولا شك أن معني ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والإنقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلي اللَّه تعالي في العبادة، كما أمر اللَّه عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم، وجعل الخضوع واسطة للإنقياد إلي الأوامر الإلهية.

إذن لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ من العباد الطاعة،

إلّابرفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالًا لأمر اللَّه وأمر رسوله وأمر اولي الأمر من هذه الأمة.

قال تعالي: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 121

التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1».

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: كنت جالساً عند أمير المؤمنين عليه السلام فجاء ابن الكوّا، فقال: ياأمير المؤمنين مَنْ البيوت في قول اللَّه عزّ وجلّ: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَي وَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «2»

؟

قال عليّ عليه السلام: «نحن البيوت التي أمر اللَّه بها أن تؤتي من أبوابها، نحن باب اللَّه وبيوته التي يؤتي منه، فمن تابعنا وأقرّ بولايتنا فقد أتي البيوت من أبوابها ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتي البيوت من ظهورها» «3».

ج- قوله تعالي: «يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ».

وقد بيّن القرآن الكريم في آيات أخري الذين يخافون من ربّهم، كما في سورة الدهر، قال تعالي: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا* وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيًما وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَانُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا* إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا* فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا» «4».

فقد روي الفريقان أن هذه الآيات نزلت في أهل البيت عليهم السلام، وقصة هذه الآيات المباركة مفصّلة تعرّضت لها كتب التفاسير «5».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 122

وهذا يكشف عن حقيقة أولئك الرجال الذين اختصّهم اللَّه عزّ وجلّ بنوره، وهم أهل بيت العصمة والطهارة، والبيوت التي أذن اللَّه

أن ترفع وتعظّم ويتوسل بها إلي اللَّه عزّ وجلّ، ويذكر في حضرتها اسمه، ويسبّح له بالغدو والآصال.

لا يتبادر إلي الذهن أن من أهل البيت فاطمة عليها السلام، فكيف تكون من الرجال المقصودين في الآية المباركة؟

فإن الجواب عن ذلك واضح؛ لأن كلمة الرجل والرجال في الآية المباركة بمعونة القرائن والشواهد التي احتفّت بها يراد منها الشخصية العظيمة، الثابتة الأقدام في المقامات الشامخة، فيراد من الرجال في الآية المباركة تلك الشخصيات التي تسنّمت بأرجل القدرة المقامات العالية والدرجات الرفيعة في مجال العصمة والتقوي، وقد جاء التعبير القرآني بالرجل عن الأعم من الذكر في آيات عديدة، كقوله تعالي لإبراهيم عليه السلام: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَي كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» «1»

، فالمراد في هذه الآية الكريمة الإقدام بأرجل الإيمان إلي دعوة إبراهيم عليه السلام للحجّ أعم من كون القادم ذكراً أو أنثي، ونظير ذلك أيضاً قوله تعالي: «رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَي نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» «2»

فوصفهم بالرجولية هنا للثبات والاستقامة والصدق.

ولا شك أن هذا كلّه مع القرينة لا مطلقاً، والقرائن الدالّة علي إرادة الأعمّ من

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 123

الذكر والأنثي في الآية التي هي محلّ بحثنا كثيرة جدّاً، منها ما ذكرناه سابقاً من القرائن الدالّة علي أن المقصود بالرجال في الآية هم أهل البيت عليهم السلام ومنهم فاطمة الزهراء عليها السلام.

خلقة أهل البيت عليهم السلام النورية: … ص: 123

ونختم الحديث في هذه النقطة بذكر بعض الشواهد الدالّة علي أن اللَّه تعالي خلق أهل البيت أنواراً مضافاً إلي ما تقدّم في آية النور:

الأول: قوله تعالي لرسوله الأكرم صلي الله عليه و آله: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ

وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «1»

، فهذه الآية المباركة صريحة في أن اللَّه عزّ وجلّ أوحي إلي نبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله نوراً وهو الروح من أمره، ولا شك أن الإيحاء الخفيّ إنما هو إلي ذات وحقيقة النبيّ الأكرم المباركة، فيتّحد ذلك النور بشخص النبيّ صلي الله عليه و آله؛ ولذا قالت الآية المباركة أن من آثار ذلك النور «نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا» ثم جعلت ذلك الأثر بعينه لخاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله، حيث قالت:

«وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وهذا صريح في اتحاد الذات النبويّة الطاهرة مع ذلك النور في الحقيقة والأثر.

وإذا كانت ذات النبيّ الأكرم نوراً يهدي إلي صراط مستقيم، فكذلك أهل بيته عليهم السلام الذين هم نفس النبيّ صلي الله عليه و آله بنصّ آية المباهلة وآية التطهير، بل وبنص نفس هذه الآية المباركة في المقام، حيث ذكر فيها أن هذا الروح الأمري الذي أوحي إلي النبي صلي الله عليه و آله يهدي به اللَّه ويوحيه إلي من يشاء ويجتبيه من عباده، فلم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 124

يخصص ذلك بالأنبياء أو بكونهم أنبياء أو رسل، ونظير ذلك قوله تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «1»

فذكر لفظ العباد ولم يخصص بلفظ الأنبياء أو الرسل ويدلّ علي أن الذين يشائُهم اللَّه وتتعلّق مشيئته بهم ويجتبيهم لذلك غير منحصر بالأنبياء والرسل، بل يعم من يصطفيهم للعصمة والطهارة والوصاية، وهكذا الأحاديث المتواترة في كون فاطمة عليها السلام بضعة منه صلي الله عليه و آله «2»، وكون الحسن والحسين عليهما السلام من النبيّ صلي الله عليه و

آله وهو منهم «3»، وكذا قوله صلي الله عليه و آله: «عليّ مني وأنا منه» «4».

الثاني: قول النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله: «كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلما خلق اللَّه آدم قسم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء عليّ بن أبي طالب» «5».

الثالث: الروايات المتضافرة التي دلّت علي أن النبيّ صلي الله عليه و آله كان نوراً يتنقل من الأصلاب الشامخة إلي الأرحام المطهّرة، وقد أضاء منه صلي الله عليه و آله نوراً عند ولادته مل ء الخافقين، كما نقلت ذلك آمنة بنت وهب (سلام اللَّه عليها) أم النبيّ صلي الله عليه و آله حين ولادته، قالت: (إنّي رأيت حين ولدته أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصري من أرض الشام) «6».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 125

إلي غير ذلك من الشواهد الدالّة علي الخلقة النورية للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

11- بناء المساجد علي قبور الأولياء معالم الدين: … ص: 125

كما في قوله تعالي في قصّة أصحاب الكهف: «وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَي أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا» «1».

ذكر المفسرون: أن أصحاب الكهف لما بعثوا بأحدهم إلي المدينة بورقهم لجلب الطعام عثر عليهم أهل المدينة وعلموا بأمرهم جاءوا إلي الكهف، فلما دخل الذي هو من أصحاب الكهف دعا اللَّه تعالي مع أصحابه أن يميتهم لئلا يكونوا فتنة للناس، فأماتهم اللَّه تعالي، وخفي علي أهل المدينة مدخل الكهف، فلم يهتدوا إليه، فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً ونحوطهم بجدار نجعلهم وراءه، وقال المسلمون: بل نحن أحقّ بهم،

هم منّا، نبني عليهم مسجداً نصلّي فيه ونعبد اللَّه فيه «2».

وقال المفسّرون أيضاً: إن قوله تعالي: «قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَي أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا» دلّ علي أن الغلبة كانت للمؤمنين بقرينة ذكر اتخاذ المسجد «3».

ثم إن القرآن الكريم في استعراضه لهذه الواقعة أقرّ المؤمنين علي رأيهم، ولم يفنّد اتخاذهم المسجد علي قبور أصحاب الكهف من أجل التبرّك والعبادة،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 126

خصوصاً وأن القرآن الكريم إنما عرض لنا قصّة أصحاب الكهف، لأجل تعميق مبدأ الإيمان والتوحيد، والقرآن يذكر القصّة في ضمن بيان مآثر ومعالم أهل الكهف المشيدة والخالدة، وأنهم بُني علي قبورهم مسجداً لإظهار معجزتهم، وليبقي ذكرهم خالداً في أذهان البشر ويكون ذلك موعظة للمؤمنين، فلو كان بناء المسجد علي قبورهم والتبرّك بهم والتعبّد عندهم شركاً ووثناً من الأوثان، لكان ذلك علي خلاف المطلوب، ومنافياً للحكمة التي أرادها اللَّه عزّ وجلّ من سرد القصّة.

إذن قبور الأولياء وبناء المساجد عليها والتبرّك بها وجعلها واسطة في التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ في العبادة من المبادئ القرآنية الصريحة والشعائر الإلهية، التي يوجب تخليد ذكرها تخليد الدين ومعالم التوحيد، التي شيّدوها بسيرتهم المباركة ونهجهم التوحيدي، وهذا عين الأمر الإلهي باتخاذ مقام إبراهيم مصلّي، فإن تشعير مقام إبراهيم وتخليد ذكره بذلك، يكون سبباً لخلود التوحيد وباعثاً للناس علي التمسّك بهديه.

ومن ذلك أيضاً قول النبيّ صلي الله عليه و آله: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» «1»

فإن ذلك تشعيراً لقبره صلي الله عليه و آله وجعله محلّاً للعبادة ونيل القربان والمقامات عند اللَّه تعالي.

وذلك كلّه يعني أن مقامات الأنبياء والأولياء والحجج من الحريّ بها أن تعمّر وتشعّر محلّاً للعبادة والتقرّب إلي اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 127

ولا شك أن

الآيات والوسائط علامات علي عظمة الصفات الإلهية، ففعل الذات العظيمة عظيم أيضاً، فلابدّ أن يعظّم، وتعظيمه تعظيماً للَّه عزّ وجلّ، والذي يحقّر آيات اللَّه ويهينها بكلّ نوع من أنواع الإهانات يكون قد هتك الحرمة والحريم الإلهي، ولذا قال اللَّه عزّ وجلّ: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ» «1».

والحاصل: أن ترك تعظيم وليّ اللَّه والإعراض عن التوسّل والتوجّه به إلي اللَّه تعالي إخفاق في عقيدة التوحيد.

12- حبط الأعمال وقبولها: … ص: 127

قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَاتَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَي لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» «2».

هذه الآية المباركة صريحة أيضاً في أن الخضوع للنبيّ الأكرم والإقبال عليه والتوجّه إليه وتوقيره وتعظيمه وحفظ الأدب في حضرته سبب وواسطة في قبول الأعمال، وموجب لتحقّق التقوي والمغفرة والقرب من اللَّه تعالي ونيل الأجر العظيم؛ وذلك لأن الخضوع للنبيّ صلي الله عليه و آله تعظيم له بما هو آية كبري من آيات اللَّه عزّ وجلّ وشعيرة من شعائره ومعلماً من أعلام دينه، وقد سبق قوله تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 128

«ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ».

وأما الذين لا يخضعون للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله ولا يحافظون علي التزام الآداب في ساحة الحضرة النبويّة، برفعهم الأصوات فوق صوته، والتعامل معه كأحدهم، فقد توعّدهم اللَّه تعالي بحبط أعمالهم؛ لأن ذلك يوجب الإعراض عن الآيات الإلهية والوسائط الربانية التي نصبها لعباده والاستكبار عنها، فلا يكون لأعمالهم حينئذٍ وزن عند اللَّه تعالي، بما في ذلك العقيدة، التي هي عمل من الأعمال الجوانحية.

13- آيات القسم الإلهي بشخص النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله: … ص: 128

لقد وردت آيات عديدة يُقسم فيها اللَّه تعالي بالنبيّ صلي الله عليه و آله نذكر بعضاً منها:

1- قوله تعالي: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» «1»

، والقسم بعمر النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله من قبل اللَّه تعالي يدلّل علي تعظيمه وتشريفه، خصوصاً وأن المفسّرين ذكروا أن الباري تعالي لم يقسم بعمر أحد في القرآن الكريم، سوي القسم بعمر خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين صلي الله عليه و آله.

2- قوله تعالي: «لَاأُقْسِمُ بِهَذَا

الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» «2»

، قال بعض المفسّرين أن (لا) في قوله تعالي: «لَاأُقْسِمُ» أصلية نافية، والمعني هو أن اللَّه تعالي لا يقسم بمكّة والنبيّ حلّ وحالّ فيها وذلك تعظيماً له صلي الله عليه و آله، وأنه مع وجوده في مكّة هو الأحري أن يقسم به دون غيره، ذكر

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 129

ذلك أبو البقاء العكبري في إملائه، حيث قال:

(وقيل: لا أقسم به وأنت حلّ فيه، بل أقسم بك) «1».

وفي فتح القدير للشوكاني قال: (وقيل: المعني لا أقسم بهذا البلد وأنت حالّ به ومقيم فيه وهو محلّك، فعلي القول بأن «لا» نافية غير زائدة يكون المعني لا أقسم به وأنت حالّ به، فأنت أحقّ بالإقسام بك) «2».

والبعض الآخر من المفسّرين قال إن (لا) أصلية أيضاً، ولكن المعني هو: لا أقسم بهذا البلد وأنت لا حرمة لك في هذا البلد، يستحلّون دمك وقتالك، وفي ذلك دلالة واضحة علي عظمة الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله؛ وذلك لأن القسم لأجل عظمة المقسوم به والنبيّ صلي الله عليه و آله له عظمة فوق ذلك، فهو صلي الله عليه و آله موضع قسم أيضاً؛ إذ لو كان ما هو دونه من موارد القسم ولا يقسم به لعظمة النبيّ صلي الله عليه و آله، فكيف بك بذات النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، الذي هو أعظم من الكعبة؟ وعلي هذا يكون في هذه الآية مديح له صلي الله عليه و آله بأنه أكرم الخلق علي اللَّه تعالي.

ذكر هذا المعني عدد وافر من المفسّرين:

منهم: علي بن إبراهيم القمّي، حيث قال في تفسيره: («وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ» كانت قريش لا يستحلّون أن يظلموا أحداً في هذا

البلد، ويستحلّون ظلمك فيه) «3».

ومنهم: الطبرسي في مجمع البيان، قال: (وقيل: معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ فيه، منتهك الحرمة، مستباح العرض، لا تحترم، فلم يبن للبلد حرمة،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 130

حيث هتكت حرمتك، عن أبي مسلم، وهو المروي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:

كانت قريش تعظّم البلد، وتستحلّ محمّداً صلي الله عليه و آله فيه، فقال: لا أقسم بهذا البلد، وأنت حلّ بهذا البلد، يريد أنهم استحلّوك فيه، فكذّبوك وشتموك … فاستحلّوا من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ما لم يستحلّوه من غيره، فعاب اللَّه ذلك عليهم) «1».

ومنهم: ابن الجوزي في زاد المسير، حيث ذكر لقوله تعالي: «لَاأُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ» ثلاث معانٍ، قال: (والثالث: أنت حلّ عند المشركين بهذا البلد يستحلّون إخراجك وقتلك ويحرّمون قتل الصيد، حكاه الثعلبي) «2».

وبعض ثالث قال إن (لا) زائدة، ولكن مع ذلك هي دالّة علي أفضلية النبيّ صلي الله عليه و آله علي الكعبة، وأن شرفها لحلول النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله فيها، والقسم بها لأجل ذلك، فإذا كان القسم بها لأجل حلول النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله فيها يكون القسم بذات النبيّ صلي الله عليه و آله أولي وأدلّ.

وقد ذكر هذا المعني أيضاً كثير من المفسّرين:

منهم: الشيخ الطوسي، حيث قال بعد تصريحه بأن (لا) زائدة: (وقيل: معناه أنت حلّ بهذا البلد أي أنت فيه مقيم وهو محلّل، والمعني بذلك التنبيه علي شرف البلد بشرف من حلّ فيه من الرسول الداعي إلي تعظيم اللَّه وإخلاص عبادته المبشِّر بالثواب والمنذر بالعقاب) «3».

ومنهم: الشوكاني في فتح القدير، قال: (وعلي القول بأنها زائدة، يكون المعني: أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفاً وتعظيماً

لقدرك؛ لأنه قد صار

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 131

بإقامتك فيه عظيماً شريفاً وزاد علي ما كان فيه من الشرف والعظم) «1».

كذلك ذكر بعض المفسّرين أن قوله تعالي: «وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» المقصود منه إبراهيم والولد هو النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، قال ابن الجوزي: (والثاني: أن الوالد إبراهيم وما ولد محمّد، قاله الحسن أبو عمران الجوني) «2».

وهذا قسم آخر بالنبيّ صلي الله عليه و آله، كما نصّ علي ذلك القاضي عياض «3».

ثمّ إن هذه الآية المباركة دالّة علي أن إنكار ولاية الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله وكونه واسطة ووسيلة بينهم وبين اللَّه تعالي مع تعظيم الكعبة من عمل المشركين، وأن تعظيم البيت الحرام بضمّ تعظيم النبيّ الأكرم وببركة وجوده فيه.

3- قوله تعالي: «ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» «4».

4- قوله تعالي: «ق وَالْقُرْآنِ الَمجِيدِ» «5».

5- قوله تعالي: «يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» «6».

6- قوله تعالي: «الرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» «7».

7- قوله تعالي: «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ» «8».

وقد ورد عن الإمام السجّاد عليه السلام في الصحيفة السجّادية بأن كلّ قسم في

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 132

القرآن الكريم بالقرآن والكتاب يسبقه اسم فهو من أسماء النبيّ صلي الله عليه و آله، قال عليه السلام في دعائه: «وقلت جلّ قولك له حين اختصصته بما سمّيته من الأسماء «طه* مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَي» وقلت عزّ قولك: «يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» وقلت تقدّست أسماؤك: «ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» وقلت عظمت آلاؤك: «ق وَالْقُرْآنِ الَمجِيدِ» فخصصته أن جعلته قسمك حين أسميته وقرنت القرآن به، فما في كتابك من شاهد قسم والقرآن مردف به إلّاوهو اسمه، وذلك شرف شرّفته به، وفضل بعثته إليه، تعجز الألسن والأفهام عن وصف مرادك به» «1».

وعن

الإمام الصادق عليه السلام قال: «يس اسم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله» «2».

ذكر بعض المفسّرين أن صاد وقاف وغيرهما من أسماء النبيّ صلي الله عليه و آله.

وقال ابن الجوزي: (والثالث: أن معناها جيس ج يامحمّد، قاله ابن الحنفيّة والضحّاك) «3».

كانت هذه هي بعض الموارد التي أقسم اللَّه عزّ وجلّ بنبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله تعظيماً له، وتبياناً لعلوّ مقامه ومكانته عند اللَّه عزّ وجلّ، وأنه أكرم مخلوقاته.

والقسم بالشي ء نحو توسيط له؛ وذلك لأن القسم نوع من الذمّة والتوثيق، وهو نحو من أنحاء الشفاعة، لأن أحد أشكال القسم هو قسم المناشدة كما في المقام، وفي المناشدة يُذكر القسم لأجل التشفّع وجعل الشفيع والوسيط، فإذا صحّ القسم بذات النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، فيقسم علي اللَّه تعالي به في قضاء الحوائج في الدنيا والآخرة، إذاً القسم كما يستخدم للاستيثاق من الخبر، يستخدم أيضاً

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 133

في الاستيثاق من التشفّع والتوسّل كما لو كان القسم علي إنشاء، كقولك: (واللَّه لتفعلنّ كذا)، وإذا صحّ التشفّع به صلي الله عليه و آله بالقسم صحّ التوسّل به والتشفّع مطلقاً، وهذا نوع من الاستدلال بالدلالة الالتزامية البيّنة.

14- الآيات الآمرة بالتوسل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وسائر الأنبياء والأوصياء: … ص: 133

الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال عديدة نشير إلي بعضها:

1- قوله تعالي «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1».

فإن هذه الآية المباركة ناصّة وصريحة في أن التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ والإقبال عليه بالاستغفار والتوبة والأوبة لابدّ أن يكون عن طريق التوجّه والمجي ء إلي الباب الذي نصبه اللَّه تعالي لذلك، وهو النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، حيث قال تعالي: «جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ» أي يأتونك ويتوجّهون إلي اللَّه بك،

فالمجي ء إلي النبيّ صلي الله عليه و آله مجي ء إلي اللَّه تعالي.

إذن استغفارهم لأنفسهم عند اللَّه تعالي لا يغنيهم عن التوجّه بالنبيّ صلي الله عليه و آله، ومعني ذلك أن للمجي ء عند النبيّ ثم الاستغفار موضوعية في حصول المغفرة.

ولا شك أن الاستغفار وطلب المغفرة عبادة من العبادات ونوع خاص من أنواع الدعاء وحالة من الارتباط بين العبد وربّه، وللكون عند النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والمجي ء عنده دخالة في قبول تلك العبادة وتوثيق الدعاء والارتباط بين العبد

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 134

وربّه والإقبال علي اللَّه تعالي.

وهذا هو معني أن للَّه عزّ وجلّ مواضع ومواطن مشرّفة يُقبل الدعاء بالكون فيها والمثول تحت قبّتها، كما في الكون في عرفة وتحت الميزاب وعند الملتزم والمستجار وغيرها، وكما ورد من أن الصلاة في البيت الحرام تعدل كذا ألف ركعة، وهذا يعني أن للكون في البيت الحرام دخالة في توثيق الارتباط بين العبد وبين اللَّه تبارك وتعالي.

والحاصل: إن اللَّه عزّ وجلّ يخاطب المذنبين الظالمين لأنفسهم أن تكون عبادتهم في طلب المغفرة بالقصد إلي النبيّ صلي الله عليه و آله والمجي ء عنده، لأن ذلك من مواطن استجابه الدعاء وتفتّح أبواب السماء وقبول التوبة وتحقّق المغفرة، وهذا نوع من أنواع التوسّل والتشفّع به صلي الله عليه و آله إلي اللَّه عزّ وجلّ، فمجيئهم عند النبيّ والاستغفار في حضرته نوع من أنواع التوسّل، واستغفار النبيّ صلي الله عليه و آله بعد توسلهم به نوع من أنواع الشفاعة؛ ولذا قال عزّ وجلّ: «وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ»، وبعد التوسّل والشفاعة قال تعالي: «لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا».

2- قوله تعالي: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» «1».

وهذا أمر من اللَّه عزّ وجلّ لنبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله بأن

يتشفّع للمؤمنين ويكون وسيلة وواسطة لهم في المغفرة.

3- قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 135

إن في هذه الآية المباركة أمر إلهي لعصاة هذه الأمة، بأن يأتوا إلي النبيّ صلي الله عليه و آله ويتوسلون به ليستغفر لهم اللَّه عزّ وجلّ.

والباري تعالي يقول إن الإباء عن المجي ء عند النبيّ صلي الله عليه و آله صدود واستكبار علي اللَّه تعالي، وهو نفس الجرم الذي وقع به إبليس عندما أبي عن السجود لوليّ اللَّه وخليفته آدم، حيث قال تعالي: «أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ»، كذلك الفسق وصَفَ به اللَّه عزّ وجلّ المنافقين كما وصف به إبليس، وليس ذلك إلّا لأنهم لوّوا رؤوسهم وأبوا زيارة النبيّ صلي الله عليه و آله وتوسيطه والتوجّه به إلي اللَّه تعالي في الاستغفار، وذلك سواء قبل وفاة النبيّ صلي الله عليه و آله أو بعدها؛ لأن الرسول الأكرم حيّ بالآيات وبروايات الفريقين، تُعرض عليه الأعمال ويسمع السلام ويردّه وهو شهيد علي جميع الأمم.

4- قوله تعالي: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «1».

وفي هذه الآية المباركة والآيات التي سبقتها تأكيد علي أن هذه الأمة لا ترحم إلّا بنبيّها صلي الله عليه و آله، وهو شفيع هذه الأمة ووسيلتها، وإن اللَّه عزّ وجلّ أمره بذلك وأمر الأمة بالرجوع إليه لنيل الرحمة والمغفرة.

5- قوله تعالي حكاية لكلام إبراهيم عليه السلام مع عمّه آزر: «قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا» «2».

وهذه الآية المباركة صريحة فيما نحن بصدد اثباته؛ إذ أن النبيّ إبراهيم عليه السلام يعلّل شفاعته ووساطته في الاستغفار بأن اللَّه كان به حفيّاً، فالحفاوة والحظوة

الامامة الالهية(5)، ج 4،

ص: 136

والحبوة والوجيه والوجاهة التي يوليها اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم عليه السلام وسيلة وباباً ووجهاً يتوجّه به إلي اللَّه عزّ وجلّ، كما تقدم ذلك في الآيات التي صرّحت بأن موسي وعيسي عليهما السلام وجيهان عند اللَّه تعالي ومن المقرّبين، فكلّ مقرّب ووجيه وحبيب لدي اللَّه ومن له كرامة وعزّة عنده عزّوجلّ يتوجّه ويتوسّل به إلي اللَّه ويجعل شفيعاً في قول القائل: «إنّا توسّلنا وتوجّهنا واستشفعنا بك إلي اللَّه يا وجيهاً عند اللَّه اشفع لنا عند اللَّه».

والتعليل المذكور في هذه الآية الكريمة عامّ، وقد أقرّ اللَّه تعالي إبراهيم عليه، فيكون هذا التعليل دليلًا عامّاً علي أن كلّ من كان له حفاوة وقرباً عند اللَّه عزّ وجلّ يتوسل به ويتشفّع به عند اللَّه تعالي.

وهذه هي الملّة الإبراهميية الحنيفية التي نحن عليها، «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» «1».

6- قوله تعالي حكاية لقول موسي عليه السلام: «قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» «2».

فالنبيّ موسي عليه السلام في هذه الآية المباركة يستغفر لنفسه ويتوسّط في طلب الاستغفار لأخيه هارون عليه السلام، وهذا معناه أن الوسيلة والشفاعة قد تكون أيضاً من الوليّ الذي هو أقرب وأكثر حظوة عند اللَّه تعالي للوليّ الذي هو دونه في القرب، كما ورد ذلك في شفاعة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله لبقيّة الأنبياء بل ولخصوص الأئمة الاثني عشر من أهل بيته عليهم السلام في الكينونة معه في مقامه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 137

وإذا كان النبيّ موسي عليه السلام واسطة ووسيلة رحمة وغفران بين هارون النبي وبين اللَّه تعالي وهو نبيّ من الأنبياء فكيف ظنّك بسائر البشر؟!

7- قوله تعالي حكاية عن قول يعقوب عليه السلام وولده: «قَالُوا يَا

أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ* قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «1».

وهذا توسّل من أبناء يعقوب بأبيهم عليه السلام، ونفس فعلهم هذا هو توبة وندامة وأوبة وإنابة إلي اللَّه عزّ وجلّ، ففي التوبة التي هي من العبادة للَّه تعالي توجّهوا إلي أبيهم؛ لحفاوته عند اللَّه تعالي، والنبيّ يعقوب عليه السلام أقرّهم علي فعلهم هذا، وقال لهم: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» فقوله هذا شفاعة منه عليه السلام لأبنائه عند اللَّه تعالي، وقولهم وتوجّههم إليه توسّل منهم بأبيهم وتوسيط له بينهم وبين اللَّه عزّ وجلّ؛ وذلك بحسب ما تقدّم ويأتي أيضاً من الرابطة الوثيقة بين التوسّل والشفاعة، وجاء في ذيل سورة يوسف قوله تعالي: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ» «2»

أي أن ما ذكر في الآيات عبرة لمن يقرأ القرآن ليتخذها سنّة ينتهجها.

8- قوله تعالي: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ» «3».

وهذه الآية المباركة تبيّن وساطة حملة العرش في غفران الذنوب، وقد روي الفريقان أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية، أربعة من الأولين وأربعة من

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 138

الآخرين، أما الأولون فهم الأنبياء أولو العزم، نوح وإبراهيم وموسي وعيسي عليهم السلام وأما الآخرون فهم النبيّ صلي الله عليه و آله وثلاثة من هذه الأمة، وهم الامام عليّ عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام، أخرج الكليني في الكافي عن يحيي بن سليمان المازني عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السلام قال: «إذا كان يوم القيامة كان علي عرش الرحمن أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين، فأما الأربعة الذين هم من الأولين

فنوح وإبراهيم وموسي وعيسي عليهم السلام، وأما الأربعة من الآخرين فمحمّد وعليّ والحسن والحسين صلوات اللَّه عليهم» «1».

وسواء كان حملة العرش من الملائكة أم من الأنبياء والأوصياء، فإنهم شفعاء ووسيلة يستغفرون للذين آمنوا.

9- قوله تعالي علي لسان بني إسرائيل: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَي لَن نَّصْبِرَ عَلَي طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَي بِالَّذِي هُوَ خَيْرُ» «2».

فإن سؤال بني إسرائيل في هذه الآية المباركة لم يكن بالخطاب في الدعاء مباشرة للَّه تعالي، وإنما سألوا اللَّه تعالي وتوجّهوا إليه بنبيّه، وموسي عليه السلام أجابهم علي ما سألوا بقوله: «فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ» ولم ينكر عليهم توسيطه في قضاء الحاجة وطلب ونيل المقصود، وكذلك اللَّه عزّ وجلّ لم ينكر عليهم ذلك في القرآن الكريم، وإنما أنكر عليهم استبدال الذي هو أدني بالذي هو خير.

10- قوله تعالي علي لسان نبيّه سليمان عليه السلام: «قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 139

بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» «1»

، حيث توسّل النبيّ سليمان عليه السلام للإتيان بعرش بلقيس بمن عنده علم من الكتاب، وهو وصيّه آصف بن برخيا.

والحاصل: إن هذا الوجه القرآني الذي ذكرناه بطوائفه المتعدّدة من الآيات، حصيلته أن هناك أمراً إلهياً للنبيّ صلي الله عليه و آله بأن يكون وسيلة

وشفيعاً لهذه الأمة، وأمر الناس بأن يأتوه ويقصدوه ويزوروه طلباً للشفاعة وقضاءً للحوائج، وأن مجرّد الندامة والتوبة لا تكفي، بل لابدّ من التوجّه إلي الواسطة، كما فعل أولاد يعقوب، الذين كان في قصصهم عبرة لهذه الأمة، وهذه كلّها أوامر تعظّم مبدأ التوسّل وتحثّ عليه وتهدّد من يستكبر عليه، وأن مصيره يكون كمصير إبليس.

15- آيات التوسّل بمخلوقات كريمة أضيفت إلي الأنبياء والأولياء: … ص: 139
اشارة

هناك آيات عديدة تنصّ علي مشروعية التوسّل بغير الأنبياء والرسل من المخلوقات الكريمة علي اللَّه تعالي، والتي أُضيفت إلي الأنبياء والأولياء، فهي توجب تحقيق المقصود وإنجاح بعض الحوائج، نشير إلي بعضها:

1- ما هو مذكور في قصة يوسف عليهما السلام، حيث أمر إخوته أن يُلقوا قميصه علي وجه أبيه ليرتدّ بصيراً ببركة ذلك القميص، وذلك في قوله تعالي: «إِذْهَبُوا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 140

بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَي وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ* وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ* قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ* فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَي وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» «1»

، فالمشافي في هذه الآيات المباركة نبيّ كبير من الأنبياء، وهو يعقوب عليه السلام، والشفاء حصل بتوسّط قميص لامس بدن يوسف عليه السلام، وهذا نوع من التوسّل والتوسيط في إفاضة الشفاء من اللَّه عزّ وجلّ، فإن الشفاء حقيقة من اللَّه تعالي والفيض كلّه منه تعالي؛ لأنه الخالق الحقيقي لكلّ الممكنات بما فيها الشفاء والاستشفاء، كما في قول إبراهيم عليه السلام: «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» «2»

إلّاأن ذلك لا يمانع جعل الوسائط وأن يتوسل الشخص بوسيلة منصوبة من اللَّه عزّ وجلّ ومجعولة لإفاضة الشفاء منه تعالي، كالأشياء المضافة إلي الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، والسرّ في

ذلك أن اللَّه عزّ وجلّ جعل عالم الخلقة محكوماً بقانون الأسباب والمسببات، لتكون مواطن ومجاري فيضه إلي المراتب النازلة من الوجود.

إذن إذا كان نبيّ من الأنبياء يتوسل بجاه نبيّ آخر من الأنبياء، وهو ابنه يوسف عليه السلام، وذلك ببركة قميصه بجعله واسطة فيض في الشفاء، فكيف بنا نحن؟

ثم إنه ليس في المورد وهو القميص خصوصية، بل ذلك شامل لكلّ ما له نسبة وإضافة إلي نبيّ من الأنبياء أو وصيّ من الأوصياء بما يوجب حصول

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 141

البركة فيه، وذلك لأن الفعل يحمل في طيّاته الطبيعة العامة والسنّة الإلهية الشاملة؛ ولذا قال اللَّه عزّ وجلّ في نفس سورة يوسف: «لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ» «1»

، وقال تعالي أيضاً في السورة ذاتها: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَي» «2».

إذن آية الاستشفاء ومشروعيته عامّة والمورد لا يخصّص الوارد.

هل الآية دليل علي مشروعية الاستشفاء فقط؟ … ص: 141

لابدّ من التنبيه هنا علي أن الاستشفاع والتوسّل والاستغاثة والتبرّك والاستشفاء كلّها من باب واحد، وتندرج تحت طبيعة واحدة وإن تعدّدت عناوينها، فهي أصناف لطبيعة واحدة عامّة، وهي توسيط الواسطة لنجح المسؤول ونيل المطلوب.

فالتبرك مثلًا هو طلب البركة، أي طلب الحاجة بواسطة ما جعله اللَّه عزّ وجلّ من الحظوة والبركة في ذوات الأنبياء والأولياء المقدّسة أو ما يتعلّق بهم وينتسب إليهم.

وكذا الاستغاثة طلب قضاء الحاجة بواسطة المستغاث به في حالة خاصة، وهكذا بقيّة العناوين الأخري كما ستأتي الإشارة إلي بعضها عند ذكر الفرق بين التوسّل والاستشفاع والشفاعة في الفصل الرابع.

وبناء علي هذا يكون الاستشفاء بقميص يوسف عليه السلام المذكور في الآية

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 142

المباركة توسيط وتبرّك وتوسّل بالقميص إلي اللَّه عزّ وجلّ.

وتكون هذه الآية الكريمة دالّة علي مشروعية مطلق التوسيط بكلّ

أصنافه، وليست الآية خاصة بالاستشفاء فقط، وهذا من الاستدلال علي مشروعية النوع أو الجنس بمشروعية الصنف أو النوع.

هذا تمام الكلام في هذه الآية.

2- قصة البقرة، الواردة في قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ مُوسَي لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» «1»

، فإن هذه القصة تتحدّث عن إحياء شخص من بني إسرائيل، قتل ظلماً واختلفوا في قاتله فأمرهم اللَّه تعالي للكشف عن قاتله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها، لتعود إليه الحياة ويتكلّم بذكر قاتله، قال عزّ وجلّ: «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَاتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَي وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» «2»

، فهنا الباري تعالي مع كون الإحياء من فعله وليس هو بالأمر الهين، بل هو من الأمور العظيمة والكمالات الأولية لا الثانوية، مع ذلك جعل الوسيلة إليه الضرب بلحم بقرة مذكّاة، فكيف بك بالأنبياء والأوصياء، ألا يستدرّ بهم رحمة اللَّه عزّ وجلّ؟!

ويجدر الاشارة إلي أن البقرة لم تكن بقرة عادية، بل كانت محلّ العناية الإلهية، وقد ذُكرت لها أوصافاً خاصّة في الآيات المباركة، وإن كان الاستقرار عليها بعناد من بني إسرائيل.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 143

والفرق بين ما هو مذكور في هذه الآيات المباركة وبين تقديس البقر وعبادتها، هو وجود الأمر الإلهي وعدمه، وقد جعل اللَّه عزّ وجلّ البقرة سبباً من الأسباب الإلهية وموضعاً من مواضع قدره وإبرام قضائه في القصة المذكورة.

ويشهد علي ما ذكرنا قوله تعالي في ذيل الآية الكريمة: «وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

ومعني ذلك أن اللَّه عزّ وجلّ جعل البقرة آية وواسطة لاحياء الموتي بإذنه ومشيئته.

3- قصة التابوت، التي وردت في قوله تعالي: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ

قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّي يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَي وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «1».

فالتابوت الذي فيه سكينة وبقيّة مما ترك آل موسي وآل هارون جُعل آية معجزة لمُلك طالوت وإمامته، فتلك التركة بسبب علقتها بآل موسي وآل هارون واكتسابها البركة لإضافتها إليهم تصل إلي درجة الاعجاز والآية البيّنة لاثبات مطالب حقّة، وهي إمامة طالوت وتوجب بروز ظواهر خارقة للعادة للتابوت تكوّن منه معجزة، كما ورد في روايات الفريقين.

فهذه الواسطة تجاوزت حدّ الكرامة والبركة لتصل إلي درجة الحجّية

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 144

والإعجاز؛ ولذا قال اللَّه عزّ وجلّ في ذيل الآية الكريمة: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» وذلك لبيان أن التابوت آية وعلامة وواسطة يتوسّط ويتوسل بها لإثبات مُلك طالوت وإمامته.

4- قصة السامري صاحب العجل، التي وردت في قوله تعالي في بني إسرائيل عندما ذهب موسي عليه السلام إلي ربّه: «قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَي السَّامِرِيُّ* فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَي فَنَسِيَ» «1»

إلي أن قال اللَّه عزّ وجلّ حكاية عن لسان موسي عليه السلام: «قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ* قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» «2»

، والرسول في الآية الكريمة كما في بعض الروايات

هو جبرئيل عليه السلام، عندما هبط وتمثّل علي حصان ليستنقذ موسي عليه السلام وبني إسرائيل من فرعون وجنوده ويرشدهم إلي الطريق، من أجل العبور من مصر إلي الطرف الآخر، فكان علي حصان نوريّ تمثّلي، وكان السامري من خواصّ النبيّ موسي عليه السلام، فلاحظ أن حافر حصان جبرئيل عليه السلام عندما كان يخطو الحصان ينبت الزرع دفعة واحدة من تحته، فقبض قبضة من أثر حصان الرسول فنبذها في العجل فإذا هو له خوار.

وقد وردت هذه القصة في روايات الفريقين:

ففي تفسير القمي عن أبي جعفر عليه السلام قال: (وكان السامري علي مقدّمة موسي يوم أغرق اللَّه فرعون وأصحابه، فنظر إلي جبرئيل وكان علي حيوان في صور

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 145

رمكة «1» فكانت كلّما وضعت حافرها علي موضع من الأرض تحرك ذلك الموضع، فنظر إليه السامري وكان من خيار أصحاب موسي، فأخذ التراب من تحت حافر رمكة جبرئيل وكان يتحرك، فصرّه في صرّة، وكان عنده يفتخر به علي بني إسرائيل، فلما جاءهم إبليس واتخذوا العجل قال للسامري هات التراب الذي معك، فجاء به السامري فألقاه إبليس في جوف العجل، فلما وقع التراب في جوفه تحرك وخار) «2».

وفي جامع البيان للطبري قال: (وقوله: فقبضت قبضة من أثر الرسول، يقول:

قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرئيل) ثم أخرج عن ابن عباس قوله: (لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار وتكسّرت، ورأي السامري أثر فرس جبرئيل عليه السلام فأخذ تراباً من أثر حافره، ثم أقبل إلي النار فقذفه فيها، وقال: كن عجلًا جسداً له خوار، فكان للبلاء والفتنة) وفي حديث آخر عنه أيضاً: (فألقي القبضة علي حُليّهم فصار عجلًا جسداً له خوار).

وأخرج أيضاً عن مجاهد في

قول اللَّه تعالي: «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا» قال: (من تحت حافر فرس جبرئيل، نبذه السامري علي حلية بني إسرائيل فانسبك عجلًا جسداً له خوار) «3».

فإذا كان أثر التراب الذي لامس حافر فرس جبرئيل عليه السلام له ذلك التأثير مع أن السامري استخدمه في طريق الضلالة والغواية فما بالك بمن هو أشرف من جبرئيل عليه السلام؟! ألا تكون المواضع التي وقف فيها الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله وقبره

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 146

والمواطن التي لامست بدنه الشريف ذات بركة وتأثير خارق لما هو المعتاد، لا سيما إذا كان في طريق الهداية والانصياع للأوامر الإلهية؟!

5- عصا موسي عليه السلام، حيث كانت وسيلة وواسطة للعديد من المعاجز الإلهية كانقلابها أفعي، وضرب البحر بها فكان كلّ فرق كالطود العظيم، وضرب الحجر بها فانفجرت إثنتا عشرة عيناً، كلّ ذلك لكونها مضافة إلي موسي عليه السلام، فهي مباركة ببركة موسي عليه السلام وواسطة للكثير من المعاجز، فكيف بك بنفس موسي ومن هو أفضل من موسي، ألا يكون واسطة ووسيلة لقضاء الحوائج التي هي لا تصل في العظمة والخطورة إلي حدّ المعجزة؟!

6- البيت الحرام حيث جعله اللَّه عزّ وجلّ مباركاً تُطلب فيه البركة ويدعي فيه لقضاء الحوائج، وهو نوع توسيط لأجل طلب البركة، وذلك ما جاء في قوله تعالي: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًي لِلْعَالَمِينَ» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 147

الفصل الثالث/ شرطية التوسّل وضرورته في مقامات ثلاث: … ص: 147

اشارة

/ قبول التوبة/ وقبول العبادات/ ونيل المقامات الإلهيّة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 148

الدليل الأول: معطيات الشهادة الثانية

الدليل الثاني: التوسّل ضرورة عقلية

الدليل الثالث: عموم وجوب طاعة اللَّه ورسوله وأولي الأمر.

الدليل الرابع: اقتران اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام بأعظم العبادات.

الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة

ضرورة قرآنية.

الدليل السادس: شرطية الاستجارة بالنبيّ صلي الله عليه و آله في طلب المغفرة.

الدليل السابع: التوسّل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام ميثاق مأخوذ علي الأنبياء.

الدليل الثامن: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم».

الدليل التاسع: الاستكبار والصدّ عن آيات اللَّه تعالي موجب لحبط الأعمال.

الدليل العاشر: خضوع الملائكة لوليّ اللَّه وخليفته.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 149

شرطية التوسّل وضرورته في مقامات ثلاث … ص: 149

اشارة

نريد أن نبيّن تحت هذا العنوان دور التوسّل وشرطيته في مقامات ثلاث، وهي كالتالي:

المقام الأول: إن من شرائط التوبة وقبولها التوسّل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

المقام الثاني: إن من شرائط قبول وصحة الإيمان (العقيدة) والعبادات مطلقاً التوسّل والتوجّه بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

المقام الثالث: إن أي توجّه إلي الحضرة الربوبية في صدد نيل مقام من المقامات الإلهية أو حظوة عند اللَّه تعالي لابدّ فيه من التوجّه بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام والتوسّل بهم.

فإن فقهاء الإمامية وغيرهم أيضاً ذكروا أن ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في تلك المقامات الثلاث، بمعني معرفتهم والإيمان بإمامتهم.

وليس هذا ما نريد إثباته هنا؛ إذ هو مع وضوحه خارج عن محلّ البحث.

إذن ما نريد بيانه هنا هو شرطية التوسّل بالنبيّ الأعظم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام في تلك المقامات الثلاث.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 150

ولأجل اشتراك ما ادّعيناه في المقامات الثلاث في طبيعة الأدلّة نستعرضها ببيان واحد، يكون صالحاً لإثبات المدّعيات الثلاثة في المقامات المذكورة.

وإليك فيما يلي استعراض الأدلّة:

الدليل الأول: معطيات الشهادة الثانية … ص: 150

إن المعرفة والعقيدة والإيمان الذي هو من العبادات، بل أعظم الفرائض الإلهية؛ لأنه إذعان وإخبات وتسليم وخضوع وانقياد للَّه تعالي، وهذه المعرفة الإيمانية للعقل والقلب هي عبادتهما وطوعانيتهما للَّه نوع توجّه ولقاء للَّه تعالي ووفود علي الحضرة الربوبية وزلفي وقرب بتوسّط الإيمان القلبي، وهذه العبادة القلبية العظيمة ممتنعة بلا واسطة، وذلك لعظمة اللَّه عزّ وجلّ، فلا اكتناه ولا إحاظة ولا مماسّة ولا ملامسة ولا مواجهة جسمية أو عقلية أو نفسية؛ إذ لا يُجابه الجسم إلّاما يماثله في الجسمية، ولا يُجابه النفس أو العقل إلّاما

يماثلهما، واللَّه تعالي منزّه عن كونه جسماً أو نفساً أو عقلًا؛ لكونها من الممكنات المحدودة بحدود الماهية والفقر والحاجة.

إذن لابدّ من الوسيلة والواسطة في الإيمان، الذي هو أعظم العبادات وأعظم أنواع التوجّه إلي اللَّه تعالي، والواسطة هي الإيمان بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والإقرار بالشهادة الثانية في مقام الإدلاء بالشهادة التوحيدية المقبولة عند اللَّه تعالي، والموجبة للخروج من حظيرة الشرك إلي التوحيد الإسلامي الخالص؛ لأنه أعظم آية للحقّ سبحانه.

وإذا كان للوسيلة هذا الدور الخطير في المعرفة وأن التوجّه إليها في المعرفة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 151

توجّهاً إلي اللَّه تعالي، والمعرفة أعظم شأناً من سائر العبادات، فكيف لا يكون التوجّه في عبادة البدن والنفس إلي اللَّه تعالي بالوسيلة؟! وكيف لا يسوغ التوجّه في الخطاب الكلامي بألفاظ الدعاء إلي الوسيلة، ويكون دعاؤها دعاء بها إلي اللَّه تعالي؟!

ففي حاقّ وعمق عبادة الإيمان والتوجّه القلبي لابدّ من التوجّه بالنبيّ صلي الله عليه و آله للوفود علي اللَّه عزّ وجلّ، فلا يتحقّق التوحيد ولا يكون المرء مؤمناً، إلّاإذا توجّه بقلبه إلي اللَّه تعالي بالشهادة الأولي والشهادة الثانية، ومن ينفي أي إسم أو واسطة مع اللَّه تعالي عند التوجّه إليه فهو واقع في مغبّة الشرك والوثنية من حيث يشعر أو لا يشعر، نظير وثنية قريش، حيث كانوا لا يدينون اللَّه تعالي بطاعة وولاية نبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله.

وإذا كان الإيمان والمعرفة كذلك فكيف بباقي العبادات التي هي أقلّ شأناً وخطورة؟!

والحاصل: أن المعرفة والإيمان والتوحيد الذي يتضمّن الدين بأجمعه لا يحصل إلّابالتوسل بآيات اللَّه الكبري، ومزاوجة الشهادة الثانية بالشهادة الأولي، وهذا يعني أن أي شأن من الشؤون الدينية كالتوبة أو العبادة أو نيل مقام من المقامات الإلهية لا يمكن

أن يتحقّق إلّابالمحافظة علي الشهادة الثانية، والإقرار بها وبمعطياتها وتداعياتها ومقتضياتها في كافّة أصول وفروع المعارف التوحيدية، ولا شك أن الإيمان بالشهادة الثانية توجّه قلبي بالنبيّ الأكرم للَّه عزّ وجلّ، إذ الإيمان كما أسلفنا طلب للقرب والزلفي ولقاء اللَّه تعالي، وهذا القرب إنما يتحقّق بتوسيط الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمّداً رسول

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 152

اللَّه ووليّه وخليفته في أرضه.

فالإسلام يدعو إلي التوجّه بالنبيّ صلي الله عليه و آله في الإيمان والاعتقاد وهو أفضل عبادة، فضلًا عن بقيّة العبادات الأخري، والإباء عن التوجّه في العبادة بخاتم الأنبياء إنكار للشهادة الثانية، ودعوة إلي الشرك باسم التوحيد، وهذا ما أخفق فيه السلفيون، حين جحدوا التوسّل بالنبي صلي الله عليه و آله، فلا تراهم يقرنون لون الشهادة الثانية ومؤداها ومعطياتها بلون الشهادة الأولي في رسم بناء التوحيد في أدبيات كتبهم، فيقتصرون علي تفسير الشهادة الأولي في التوحيد، من دون أن يهتدوا إلي كيفية ركنية مؤدّي الشهادة الثانية في أركان التوحيد، وكيفية ضرورة الربط والارتباط بين مؤدّي كل من الشهادتين في رسم أصل التوحيد، ومنه يظهر أن التوسّل والتوجّه بالنبي صلي الله عليه و آله ضرورة وليس مجرد خيار مشروعية.

الدليل الثاني: التوسّل ضرورة عقلية … ص: 152
اشارة

علي الرغم من أن هناك من أعلام السنّة من أكّد علي رجحان التوسّل ومشروعيّته، كالقاضي عياض في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفي والسُبكي في شفاء السقام والسيف الصقيل والسمهودي في وفاء الوفا وتقي الدين الحصني الشافعي في كتابه دفع الشبه عن الرسول والرسالة وغيرهم.

إلّا أن ما نرمي إليه في هذه الأبحاث أبعد من ذلك؛ إذ أن الرجحان والمشروعية لا يثبتان سوي التخيير وكون التوسّل أمراً مرغوباً فيه يجوز للمكلف تعاطيه وله تركه أيضاً، وما نريد التأكيد عليه هنا هو أن

مبدأ التوسّل أمر ضروري يحكم العقل بلابدّيته وعدم إمكان المحيص عنه، وذلك لأن نفي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 153

الواسطة والوسيلة بين العبد وبين ربّه في مقام التوجّه إليه تعالي لا يخرج عن أحد فروض ثلاثة كلّها باطلة:

الأول: فرض المجابهة والمواجهة المباشرة للَّه تعالي حين التوجّه إليه في الدعاء والعبادة، وبطلان هذا الفرض واضح، إذ يلزم منه التشبيه للذات الإلهية، وقد ثبت بطلانه في الأبحاث العقائدية؛ لتنافيه مع الصفات الكمالية اللّامتناهية لواجب الوجود.

بيان الملازمة: … ص: 153

إن مجابهة ومواجهة البشر العاديين المباشرة للذات الإلهية المقدّسة إما أن تكون حسّية جسمانية أو نفسانية روحية أو عقلية، وهذه الأقسام الثلاثة من المجابهة المباشرة هي التشبيه الباطل بعينه، وذلك لأن الارتباط المواجهة الجسمية إنما تفرض مع ما هو جسم، لقانون التضايف بين المتجابهين، وهكذا التوجّه المواجهة الروحية والقلبية لما هو روح والمواجهة العقلية لما هو عقل أيضاً، فكلّ هذه الأقسام المفروضة للمواجهة المباشرة للَّه تعالي لم تخرج عن دائرة التشبيه للذات المقدّسة بكونها جسماً أو روحاً أو عقلًا، وهو الشرك بعينه، لكونه موجباً لسلب واجب الوجود عن واجبيّته وكماله المطلق اللّامتناهي، ووصفه بصفات المخلوق المحدود بحدود الإمكان والماهية والفقدان والاحتياج والافتقار.

وحاصل هذا الفرض هو مواجهة البشر العاديين المباشرة للَّه تعالي، وهو فرض التشبيه الباطل بكلّ مراتبه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 154

الثاني: القول بالتعطيل وعدم السبيل إلي اللَّه تعالي ومعرفته والتوجّه إليه، وهو باطل، لأن معرفة اللَّه تعالي واجبة والتي هي نوع لقاء للَّه عزّ وجلّ وتوجّه إليه وزلفي.

الثالث: دعوي أن الناس بأجمعهم لهم ارتباط مباشر مع اللَّه تعالي فوق الجسم والروح والقلب والعقل بما لا يستلزم التشبيه، وهذا باطل بالوجدان، وقد رفض القرآن الكريم أيضاً الإيحاء والوحي إلي جميع البشر واستنكر ذلك علي المشركين، كما في قوله تعالي:

«بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِيٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَي صُحُفًا مُنَشَّرَةً» «1».

وردّ اللَّه عزّ وجلّ في آيات أخري علي هذه المقالة الباطلة، حيث قال: «وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّي نُؤْتَي مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ» «2».

ومع بطلان هذه الفروض الثلاثة تكون النتيجة ضرورة الإيمان بالوسائل والوسائط والآيات، والرجال المؤهّلين للإرتباط باللَّه تعالي، وهم الأنبياء والأولياء والمصطفين، الذين اصطفاهم اللَّه عزّ وجلّ وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه في كلّ ما يحتاج الخلق إليه وفي كلّ توجّه وطلب ودعاء وزلفي إلي اللَّه تعالي، سواء كان علي مستوي التوبة أو سائر العبادات أو نيل مقام من المقامات الإلهية، وليس ضرورة التوسيط إلّالعظمة اللَّه عزّ وجلّ وعلوه عن التجسيم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 155

والتشبيه والتعطيل.

ثم إن آيات اللَّه الكبري وأسمائه العظمي التي جعلها واسطة في التوجّه إليه هي أيضاً لا تتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ بالمباشرة ولا تجابهه إلّابذواتها، فتوجّه الوسائط أيضاً إلي اللَّه تعالي إنما يكون بذواتها التي هي آية لمعرفة اللَّه عزّ وجلّ، ولا توجد أي مجابهة بالمباشرة لأيّ مخلوق من المخلوقات.

التوسّل في كل النشآت ولأصناف المخلوقات: … ص: 155

والحاصل: أن اللَّه تعالي لعظمته وعظيم صفاته لا يجابه ولا يواجه إلّا بالوسائل والآيات، ولا يستثني من ذلك القانون وتلك السنّة الإلهية التكوينية أي مخلوق من المخلوقات في كلّ شأن من شؤونه المعرفية والعبادية في هذه النشأة وفي جميع النشآت، ولذا قالت الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام في مستهل خطبتها المعروفة في هذا المجال: «فاحمدوا اللَّه الذي بعظمته ونوره ابتغي من في السماوات ومن في الأرض إليه الوسيلة، فنحن وسيلته في خلقه، ونحن آل رسوله، ونحن حجّة غيبه وورثة أنبيائه»

«1».

وكذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: «وبعظمته ونوره ابتغي من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة» «2».

إذن قانون ومبدأ التوسّل ضرورة يدركها العقل ويُقرّ بها، لعظمة اللَّه تعالي، وليس التوسّل أمراً تخييرياً ولا مشروعاً فحسب.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 156

الدليل الثالث: عموم طاعة اللَّه ورسوله وأولي الأمر … ص: 156
اشارة

إن ضرورة المسلمين قائمة علي أن جميع العبادات فيها ما هو فرائض قرآنية إلهية ومنها ما هو سنن نبويّة، كما في الصلاة والصيام والحجّ والزكاة والجهاد وغيرها، إذ هي فرائض إلهية في أصل وجوبها في الدين، وأما تفاصيلها وأجزائها وشرائطها وأقسامها فهي سنن نبويّة وصلتنا عن طريق أمر النبيّ صلي الله عليه و آله لكلّ المسلمين بتلك التفاصيل والتشريعات الخاصة، ومن أمثلة ذلك ما ورد في روايات الفريقين من أن الصلوات كان فرضها من اللَّه تعالي ركعتين لكلّ صلاة وما زاد عليها في كلّ صلاة كان من سنّة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأمره وفرضه «1» وهكذا بقيّة التفصيلات والتشريعات القانونية النبويّة ضمن الفرائض الإلهية، وكتب الحديث مليئة بالأوامر النبويّة في مجمل الأبواب الفقهية وغيرها.

إذن فيكون الإتيان بالصلاة والزكاة والحجّ وغيرها طاعة لأمر اللَّه وأمر رسوله صلي الله عليه و آله، ولا تُستعلم طاعة اللَّه عزّ وجلّ من دون طاعة الرسول الأكرم في أوامره ونواهيه، فهو صلي الله عليه و آله باب طاعته تعالي؛ لأنه هو الدالّ والمبيّن والناطق الرسمي عن أوامر اللَّه عزّ وجلّ ونواهيه.

وهذا ما كنّا نُعبّر عنه بتداعيات ومقتضيات الشهادة الثانية؛ إذ هي تستدعي الإتيان والالتزام بجملة الدين طاعة للَّه ورسوله.

وهذا ما تكاثرت ودلّت عليه جملة من الآيات القرآنية، كما في قوله تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 157

«قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» «1».

وقوله تعالي: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» «2».

ثم إن اللَّه

عزّ وجلّ حذّر المسلمين من المخالفة لأوامر الرسول الأكرم، وبيّن في آيات عديدة العواقب الوخيمة التي تترتب علي مخالفة النبيّ صلي الله عليه و آله في أوامره:

كما في قوله تعالي: «لَاتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» «3».

وكذا قوله تعالي: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا» «4».

وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ» «5».

وقوله عزّ وجلّ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ» «6».

إلي غير ذلك من الآيات القرآنية التي جاءت في ضمن السلك العام والسنّة الإلهية الشاملة لطاعة الرسل كافّة، كما في قوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» «7»

، ومن الجدير بالإلتفات أن تتمة هذه الآية المباركة هو قوله

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 158

عزّ وجلّ: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1»

والتي سيأتي الاستدلال بها علي شرطية التوسّل في المقامات الثلاث المتقدّمة.

والحاصل: أن أوامر النبيّ صلي الله عليه و آله اقترنت بأوامر اللَّه وفرائضه في مجمل أحكام الدين الإسلامي، وقد أكّدت الآيات القرآنية علي وجوب اقتران طاعة اللَّه تعالي بطاعة رسوله صلي الله عليه و آله، وهذه طاعة عامّة كطاعة اللَّه عزّ وجلّ في كلّ أبواب الدين برمّته بلا استثناء لأي جانب من جوانب الشريعة الإسلامية والدين الإسلامي، ومعني ذلك أن نيّة القربة إلي اللَّه تعالي وطاعته في جميع العبادات إنما تتحقّق بتوجّه العبد إلي ربّه بطاعة نبيّه، ففي كلّ عبادة إنما يتوجّه العبد إلي اللَّه تعالي للتقرّب إليه بطاعته وطاعة رسوله.

فذلكة صناعية لأخذ التوسّل في نية القربة: … ص: 158

ولا شك

أن حقيقة العبادات بالنيّة القربيّة، والنيّة القربيّة إنما تحصل بالسبب المؤدّي إلي القربة، والقربي غاية مسبّبة سببها الطاعة لأوامر للَّه تعالي، وطاعة اللَّه عزّ وجلّ لا تتحقّق إلّاإذا كانت مقترنة بطاعة رسوله صلي الله عليه و آله، إذ أن النيّة التي هي روح العبادة إنما تحصل بوسيلة وواسطة طاعة النبيّ، ومن لم ينوِ القربة بهذا النحو في العبادة تكون عبادته شركاً باللَّه تعالي، لعدم التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ بأبوابه التي أمر بتوسيطها وطاعتها وامتثال العبادات انقياداً لأوامرها.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 159

ومن يريد أن يفصل في صلاته وحجّه وصومه طاعة اللَّه عن طاعة الرسول يكون علي الوثنية الجاهلية التي يشنؤها اللَّه عزّ وجلّ وعبّر عنها في قرآنه الكريم بالشرك والنجس، وطاعة كلّ من لم يأمر اللَّه بطاعته وثن من الأوثان، بل حتي صلاته تصبح وثناً إذا كانت صادرة عن طاعة غير من أمر اللَّه بطاعته، وإن كان ذلك المطاع هو الهوي وتحكيم سلطان الذات علي سلطان اللَّه عزّ وجلّ، كما في الوثنية القرشية التي ذمّها القرآن الكريم.

ومن ذلك يتّضح أن أي عبادة من العبادات أو قربة من القربات أو نيل مقام من المقامات القربية أو الفوز بحظوة عند اللَّه تعالي لا يمكن أن تتحقّق من دون توسيط طاعة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في تلك العبادة أو ذلك المقام.

ففي مقام التقرّب والنيّة والقصد جُعلت القبلة المعنوية طاعة النبيّ صلي الله عليه و آله والتدين بولايته والخضوع له، الذي هو خضوع للَّه عزّ وجلّ، كخضوع الملائكة لآدم لأنه باب اللَّه تعالي.

هذا كلّه في مقتضيات الشهادة الثانية وضرورة اقترانها بالشهادة الأولي.

كذلك أكّدت الآيات القرآنية علي ضرورة الشهادة الثالثة واقترانها بالشهادة الثانية تبعاً للشهادة الأولي.

والشهادة الثالثة عبارة عن

طاعة أولي الأمر، الذين أمر اللَّه بطاعتهم في قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا» «1»

، حيث قرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله صلي الله عليه و آله.

وقد بيّن اللَّه تبارك وتعالي في قرآنه الكريم المراد من أولي الأمر الذين تجب

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 160

طاعتهم، بعد أن بيّن تعالي المقصود من الأمر الذي هم أولياؤه، وأنه أمر ملكوتي من عالم كن فيكون، كما في قوله تعالي: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «1»

، وقوله تعالي: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» «2»

، وكذا قوله عزّ وجلّ: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا» «3»

، وقوله تعالي: «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» «4»

، ثم أفصحت الآيات القرآنية عن كون الأمر عبارة عن تدبير السماوات والأرض، قال تعالي: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَي الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» «5».

إذن أولو الأمر هم الذين يتنزّل عليهم الأمر في ليلة القدر وفيها يفرق كلّ أمر حكيم، قال تعالي: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّي مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «6»

، وقال عزّ وجلّ في وصف ليلة القدر: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «7»

، ثم بيّن اللَّه عزّ وجلّ أن شريعة النبيّ الأكرم من ذلك الأمر الحكيم الذي يفرق في ليلة القدر، حيث قال

عزّ وجلّ مخاطباً نبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله: «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَي شَرِيعَةٍ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 161

مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ» «1».

وقد صرّحت آيات أخري بأن الأمر الملكوتي يتنزّل علي عباد اللَّه من دون أن تخصّص من لهم الأمر بالأنبياء والرسل، قال عزّ وجلّ: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» «2».

وحاصل ما ذكرناه من الآيات: أن الأمر من عالم الملكوت والغيب، وأنه مرتبط بتدبير السماوات والأرض وغير مختصّ بالشؤون الدنيوية المادّية، وأن الشرائع وهداية الناس وإنذارهم مرتبطة به، وأنه شامل لأولياء اللَّه الأصفياء المجتبين وليس خاصّاً بمقام النبوّة والرسالة، وذلك لارتباطه المباشر بمقام الهداية والإيصال إلي المطلوب وهو مقام الخلافة والإمامة كما تقدم؛ ولذا قال تعالي: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» «3»

، والصبر واليقين للأئمة من أولي الأمر في هذه الآية المباركة إشارة إلي العصمة في مقام العلم والعمل.

ولا يوجد أولو أمر في هذه الأمة بعد رسول اللَّه تجب طاعتهم غير أهل بيته صلي الله عليه و آله، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

ولا يمكن اقتصار الأمر الإلهي علي السياسة والأمور الاجتماعية، بل هو أمر ملكوتي من عالم الغيب لهداية الأمة وتدبير السماوات والأرض يتنزّل في ليلة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 162

القدر علي أولياء اللَّه وأصفيائه، وهؤلاء هم أوصياء رسول اللَّه صلي الله عليه و آله والأئمة من بعده الدالّون علي أوامره والذين أوكل لهم البيان الشرعي والقانوني للأوامر الإلهية والنبويّة، فكما أن الدالّ علي أوامر اللَّه ونواهيه هو النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله بأمره ونهيه، كذلك الدالّ علي أوامر الرسول الأكرم ونواهيه أولو

الأمر من بعده بأمرهم ونهيهم، فالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أمر ونهي في ضمن إطار الفرائض الإلهية، وأولو الأمر أيضاً يأمرون وينهون في ضمن دائرة السنن النبويّة المباركة، بما يشبه الحالة التراتبية في التنزّل القانوني الوضعي في الأدوار والصلاحيات، فهم الدالّون علي طاعة الرسول صلي الله عليه و آله كما كان هو دالّا علي طاعة ربّه.

وبعبارة أخري: إن أصول تشريع اللَّه تعالي وفرائضه يتبعها تشريعات النبيّ صلي الله عليه و آله تفصيلًا وبياناً، ويتبعها تشريع أولي الأمر علي نحو التنزّل القانوني، الذي هو الفتق بعد الرتق، والتفصيل بعد الإجمال، والبسط بعد القبض للتشريعات، وهذه لغة قانونية جعلها اللَّه تعالي جسراً لإيصال أحكامه علي ما جري عليه البشر، كالتشريع للفقه الدستوري ثم النيابي ثم الوزاري، علي نحو التبعية بلا منافاة، وهذا برهان قانوني علي التشريعات التي لابدّ من طاعتها، فالرتق يُفسَّر ويفتق فتقاً قانونياً تابعاً له.

ويتجلّي ذلك المعني أكثر إذا علمنا أن معظم بيان تشريع الشرائط والموانع وتفاصيل الأجزاء هي من تشريعات أئمة أهل البيت عليهم السلام، فلا تستعلم تلك الأمور مع تركهم والإعراض عنهم وعدم الطاعة لأوامرهم.

إذن الطاعة في الدين بطاعة اللَّه، وطاعة اللَّه بطاعة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأولي الأمر، فالوليّ بعد اللَّه تعالي رسوله صلي الله عليه و آله وبعد الرسول أولي الأمر، الذين لهم حقّ استنباط الدين وبيانه وتفصيله، قال تعالي: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 163

أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» «1».

والذي يتّضح مما ذكرناه أن طاعة أولي الأمر علي حدّ طاعة رسول اللَّه مقترنة بها وشاملة للدين كلّه، كما أن ولاية اللَّه

تعالي وطاعته كذلك غير مختصّة ببعض الشؤون السياسية أو الاجتماعية.

فالإتيان بجميع العبادات والطقوس الدينية طاعة لأمر اللَّه وأمر رسوله وأولي الأمر من بعده وهم أهل بيته عليهم السلام، فالعبد ينقاد ويفد علي اللَّه تعالي ويتقرّب ويتوجّه إليه بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة مأخوذتان واسطتين في حاقّ عبادة اللَّه تعالي بما فيها عبادة المعرفة، التي هي أعظم العبادات.

ومن ثمّ كان الدين عبارة عن ولاية اللَّه وولاية الرسول وولاية أولي الأمر والطاعة لهم، قال اللَّه تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» «2».

والولاية والطاعة أصالة للَّه وبالتبع للنبيّ وأولي الأمر بإذن وأمر من اللَّه تعالي، كما أخضع اللَّه عزّ وجلّ ملائكته ومن خلق من الجنّ وغيرهم لوليّ اللَّه وخليفته آدم، بما هو النموذج والمصداق لخليفة اللَّه في الأرض، فكلّ من يتسنّم مقام الخلافة الإلهية لابدّ من الإنقياد والخضوع والطاعة له.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 164

وحيث أن التوجّه والقربة والزلفي لا تحصل إلّابالطاعة للَّه وللرسول، كذلك لا تحصل إلّابطاعة أولي الأمر مقترنة مع طاعة اللَّه ورسوله، فلا يمكن قصد القربة في العبادة ولا يحصل القرب إلي اللَّه تعالي في العبادات إلّابالخضوع والطاعة لوليّ الأمر والإتيان بالعبادة امتثالًا لأمره، تبعاً لأمر اللَّه والرسول صلي الله عليه و آله، حيث يستعلم أمرهما بأمره.

واتّضح من ذلك البيان أيضاً أن جميع العبادات فرائض من اللَّه تعالي وسنّة من نبيّه ومنهاج وهدي من أهل بيته عليهم السلام وعلي جميع المستويات الاعتقادية والعبادية.

كذلك تبيّن أن من يعبد اللَّه من دون التوجّه بحجّة اللَّه ووليّه، بطاعته وامتثال أمره عمله هباء؛ إذ لا تتحقّق منه

القربة لعدم الطاعة في مقاماتها الثلاث وعدم ضمّ الشهادات الثلاث إلي بعضها البعض، فلا يُصار إلي التوجّه إلي اللَّه تعالي إلّا عن طريق آياته وبيّناته، وهم الوسيلة إليه في المقامات الثلاث التي ذكرناها في صدر البحث، بل في الدين كلّه.

ولو كان إقحام اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وذكره والتوجّه القلبي إليه وإلي أولي الأمر موجباً للشرك لَما قرن اللَّه تعالي طاعته بطاعتهم، فليس إنكار التوسّل والواسطة إلّا دعوة إلي التفريق بين اللَّه ورسوله وأولي الأمر، وفصل الشهادات الثلاث وبتر بعضها عن البعض الآخر، وهذه هي عبادة الشرك التي آمن بها إبليس، الذي أراد أن يفرّق بين طاعة اللَّه وطاعة خليفته، بخلاف الملائكة أهل عبادة التوحيد الذين خضعوا للَّه ولوليّه آدم عليه السلام.

ثم إن مورد هذه الآية وهي آية «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 165

مِنْكُمْ» «1»

التي حكمت بوجوب الطاعة هو الدين كلّه، فكما أن طاعة اللَّه عزّ وجلّ في الدين كلّه، كذلك ما اقترن بها من طاعة الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله وأولي الأمر من أهل بيته عليهم السلام.

وما ورد من قوله تعالي: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» لبيان أن محلّ بدن الخليفة هو الأرض، ولكن خلافته ليست خاصّة بالأرض، ومن ثمّ أطوع له جميع الملائكة في جميع النشآت، والشاهد علي ذلك أيضاً تقديم الجار والمجرور (في الأرض) علي الخليفة، فالدين الذي هو معرفة اللَّه تعالي عامّ لا يستثني منه أحد في جميع النشآت، ومن ثمّ تكون جميع المخلوفات مكلّفة بالطاعة لأولي الأمر؛ ولذا أمر اللَّه تعالي الملائكة بالسجود بما فيهم إبليس وهو من الجنّ، فخلافة وطاعة أولي الأمر وولايتهم لا تحدّ بالجنّ والإنس ولا بأمر سياسي أو اجتماعي،

والكلّ يبتغي إلي اللَّه الوسيلة ويخضع لولي اللَّه في توجّهه إلي خالقه، والتوجّه إلي اللَّه من دون التوجّه إليه بطاعة نبيّه ووليّه نجس وشرك ووثنيّة قرشية.

ونيّة القربة إذا لم تكن علي هذا المنوال في العبادة لا تقبل؛ لعدم تفتّح الأبواب بالآيات.

وبذلك كلّه يتمّ ما ذكرناه من شرطية التوسّل والتوجّه في المقامات الثلاثة المتقدّمة، استناداً إلي وجوب الطاعة في مراتبها الثلاث.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 166

الدليل الرابع: إقتران اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته: بأعظم العبادات: … ص: 166

لقد رفع اللَّه عزّ وجلّ ذكر النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وقرنه باسمه في مجمل العبادات، التي تقع في مصافّ أسس الدين وأركان الإيمان، من حيث محوريتها في المنظومة الدينية، ونشير فيما يلي إلي بعض تلك الشواهد في هذا المجال:

الشاهد الأول: الإتيان باسم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في تشهّد الصلاة، حيث إن الصلاة علي النبيّ وأهل بيته راجحة بإجماع المسلمين «1»، وهي شرط واجب في الصلاة عند بعض المذاهب الإسلامية، كمذهب أهل البيت عليهم السلام «2» وبعض فقهاء المذاهب الأخري «3»، تمسّكاً بما روته عائشة من الوجوب، حيث روت عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنه قال: «لا يقبل اللَّه صلاة إلّابطهور والصلاة عليّ» «4».

وقد بيّن النبيّ الأكرم الصلاة عليه عندما سُئل عن كيفيّتها، فقال: «قولوا: اللّهمّ صلِّ علي محمّد وعلي آل محمّد» «5»

، كذلك يستحبّ الصلاة علي النبيّ محمّد صلي الله عليه و آله وآله بعد القنوت في الصلاة، جزم بذلك النووي تبعاً للغزالي في المُهذّب ونسبه إلي الجمهور «6».

ولا شك أن ذكر الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام نوع دعاء لهم وتحيّة وسلام، ونوع توجّه لهم بالمحيي والدعاء.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 167

وهذا يعني أن المصلّي في صلاته

التي هي الركن الركين في العبادات، والموجبة للعروج والقربان من اللَّه تعالي، إن قبلت قبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها علي النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام يتوجّه بالدعاء وإلقاء التحيّة والسلام، لكي تقبل صلاته وتوجب مزيداً من القرب إلي اللَّه تعالي، فالصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بالوسائط والأبواب الإلهية، لكي تكون صحيحة مقبولة عند اللَّه تعالي أو موجبة لمزيد القرب منه، وإذا كانت الصلاة كذلك فكيف بباقي العبادات الأخري؟!

ولو كان إقحام اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام في الصلاة والتوجّه إليهم بالقلب موجباً للشرك لما كان الأمر فيها علي هذه الحال، فالفرق بين صلاة المشركين وصلاة الموحّدين في أن صلاة المشركين تفتقد لذكر النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله فيها، بخلاف صلاة المسلمين، حيث يقرن فيها إسم النبيّ الأكرم إلي جانب ذكر اللَّه تعالي.

وقد قرن وجوب أو استحباب بعض العبادات الأخري غير الصلاة باستحباب الصلاة علي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، كاستحباب الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله إذا فرغ الحاج من التلبية في الحجّ «1»، واستحباب الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله عند ذبح الهدي أو الأضحية «2»، وقد جعلت الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله أحد أركان الخطبة في صلاة الجمعة «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 168

كذلك من أركان صلاة الميّت الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله وآله عليهم السلام «1»، ويستحبّ أيضاً الصلاة علي النبيّ وآله قبل الأذان والإقامة وبعدهما، كما نصّ علي ذلك عبد العزيز الهندي نقلًا عن النووي في شرح الوسيط- في كتابه الفقهي فتح المعين «2»،

إلي غير ذلك من الموارد التي لا تحصي في الفقه، والتي قرنت فيها جملة وافرة من العبادات باسم النبيّ المبارك صلي الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرين، وليس ذلك إلّاتوجّه وتوسّل بهم عليهم السلام لقبول العبادة وحصول القرب من اللَّه تعالي، ولفتح أبواب السماء لصعود العمل.

وهذا ما ورد النصّ عليه في روايات عديدة ومتضافرة من طرقنا وطرق السنّة، حيث نصّت علي أن الدعاء محجوب عن السماء ما لم يصلَّ علي النبيّ وآله:

منها: ما ورد عن الإمام علي عليه السلام قال: «الدعاء محجوب عن السماء حتي يُتبع بالصلاة علي محمّد وآله» «3».

ومنها: ما ورد عن أبي ذرّ عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «لا يزال الدعاء محجوباً حتي يصلّي عليّ وعلي أهل بيتي» «4».

ومنها: ما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال: «قال رسول

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 169

اللَّه صلي الله عليه و آله: صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم وزكاة لأعمالكم» «1».

ومنها: ما ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: «إن رجلًا أتي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: يارسول اللَّه، إني جعلت ثلث صلاتي لك، فقال له خيراً، فقال له:

يارسول اللَّه إني جعلت نصف صلاتي لك، فقال له: ذاك أفضل، فقال: إني جعلت كلّ صلاتي لك، فقال: إذن يكفيك اللَّه عزّ وجلّ ما أهمّك من أمر دنياك وآخرتك، فقال له رجل: أصلحك اللَّه كيف يجعل صلاته له؟ فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: لا يسأل اللَّه عزّ وجلّ إلّابدأ بالصلاة علي محمّد وآله» «2».

ومنها: ما رواه فضالة بن عبيد، حيث قال: (سمع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله رجلًا يدعو في صلاته لم يمجّد اللَّه تعالي ولم

يصلِّ علي النبيّ صلي الله عليه و آله، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

«عجّل هذا»، ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إذا صلّي أحدكم فليبدأ بتحميد ربّه عزّ وجلّ والثناء عليه، ثم يصلّي علي النبيّ، ثم يدعو بعد بما شاء» «3».

وعن ابن مسعود قال: (إذا أراد أحدكم أن يسأل فليبدأ بالمدحة والثناء علي اللَّه بما هو أهله، ثم ليصلِّ علي النبيّ صلي الله عليه و آله، ثم ليسأل فإنه أجدر أن ينجح) «4»، قال الهيثمي في زوائده: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح «5».

ومنها: ما عن جابر بن عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «لا تجعلوني كقدح

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 170

الراكب، فإن الراكب إذا أراد أن ينطلق علّق معالقه، وملأ قدح ماء، فإن كانت له حاجة في أن يتوضّأ توضّأ، وأن يشرب شرب، وإلّا أهراق، فاجعلوني في وسط الدعاء وفي أوّله وفي آخره» «1».

ومنها: ما أخرجه القاضي عياض عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «كلّ دعاء محجوب دون السماء، فإذا جاءت الصلاة عليّ صعد الدعاء» «2».

ومن الروايات التي من طرقنا أيضاً ما في موثقة السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من دعا ولم يذكر النبيّ صلي الله عليه و آله رفرف الدعاء علي رأسه، فإذا ذكر النبيّ صلي الله عليه و آله رفع الدعاء» «3».

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «إذا كانت لك إلي اللَّه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله ثم سل حاجتك، فإن اللَّه أكرم من أن يُسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخري» «4».

كذلك عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا دعا أحدكم فليبدأ بالصلاة علي النبيّ، فإن الصلاة

علي النبيّ مقبولة، ولم يكن اللَّه ليقبل بعض الدعاء ويردّ بعضاً» «5».

وعن الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم السلام عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «إن اللَّه سبحانه يقول: عبادي من كانت له إليكم حاجة فسألكم بمن تحبّون أجبتم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 171

دعاءه، ألا فاعلموا أن أحبّ عبادي إليّ وأكرمهم لديّ محمّد وعليّ حبيبي وولييّ، فمن كانت له حاجة إليّ فليتوسل إليّ بهما، فإني لا أردّ سؤال سائل يسألني بهما وبالطيبين من عترتهما، فمن سألني بهم فإني لا أردّ دعاءه، وكيف أردّ دعاء من سألني بحبيبي وصفوتي وولييّ وحجّتي وروحي ونوري وآيتي وبابي ورحمتي ووجهي ونعمتي؟ ألا وإني خلقتهم من نور عظمتي، وجعلتهم أهل كرامتي وولايتي، فمن سألني بهم عارفاً بحقّهم ومقامهم أوجبت له منّي الاجابة، وكان ذلك حقّاً عليّ» «1».

وهذه الروايات بمجموعها والأحكام التي سبقت للصلاة علي النبيّ وآله في الصلاة وغيرها من العبادة كاشفة عن اقتران اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرين بأعظم العبادات بل معظمها، وهذا يعني أن اللَّه عزّ وجلّ جعل تلك الأسماء المباركة واسطة لفيضه وشرطاً حقيقياً للتوسل إليه في التوبة وسائر العبادات القربية والمقامات الإلهية، وأن أبواب السماء مغلقة إلّاعن سبيلهم عليهم السلام وطريقهم، الذي نصبه اللَّه تعالي مناراً لعباده ومحجّة واضحة لخلقه.

هذا كلّه في الشاهد الأوّل وهو اقتران الصلاة علي النبيّ وأهل بيته بالصلاة وغيرها من العبادات.

الشاهد الثاني: وهو كذلك اقتران اسم النبيّ صلي الله عليه و آله المبارك بالصلاة، وذلك بالإتيان به في جزء التسليم من الصلاة، وهو قول المصلّي: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، فإن التسليم الذي هو جزء من أجزاء الصلاة ولا تتمّ الصلاة إلّابإتمامه

والفراغ منه جُعل شطر منه التسليم علي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 172

فقبل إتمام الصلاة وفي حاقّها يستحبّ للمصلّي أن يسلّم علي نبيّ الإسلام باتفاق فرق المسلمين.

ولا شك أن هذا التسليم بالكيفية المذكورة نوع زيارة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وخطاب ونداء عن قرب ب (أيها) وتوسّل واستغاثة وتوجّه إليه وبه إلي اللَّه عزّ وجلّ؛ وذلك لأن اللَّه تعالي عندما شرّع التسليم والتحيّة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في الصلاة، التي شُرّعت لذكره عزّ وجلّ والتقرّب منه والعروج إليه، فإن ذلك يعني أن ذكر النبيّ ذكر للَّه تعالي ونداءه نداء للباري عزّ وجلّ، وليس ذلك إلّالكون النبيّ صلي الله عليه و آله الآية العظمي والوسيلة المحمودة بين اللَّه وبين خلقه في الصلاة، التي هي من عظيم العبادات والقربات عند اللَّه تعالي.

إذن طبيعة الزيارة والنداء والندبة والاستغاثة والتوجّه بالنبيّ لنيل مقامات القرب في الصلاة التي هي قربان كلّ تقي موجودة في نفس الصلاة التي هي أكبر العبادات التوحيدية ويمارسها الفرد المسلم في يومه عدّة مرّات.

والحاصل: إذا كانت الصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بذكر النبيّ صلي الله عليه و آله لنيل مقامات القرب عند اللَّه تعالي فكيف هو الحال بباقي العبادات والقربات الأخري في الدين؟!

وعلي هذا كيف يقال: إن ذكر غير اللَّه تعالي في التوجّه إليه عزّ وجلّ شرك؟!

وهل هذا إلّاطمس لمعالم الشهادة الثانية؟!

الشاهد الثالث: اقتران اسم النبيّ صلي الله عليه و آله باسم اللَّه عزّ وجلّ في الأذان، الذي هو عبادة من العبادات، ويُعدّ بوابة للصلاة التي إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها، كذلك في الإقامة، حيث أن الفرد المسلم كما يشهد أن

لا إله إلّااللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 173

كذلك يشهد أن محمّداً رسول اللَّه، وليس ذلك إلّالكون إسم النبيّ صلي الله عليه و آله باب اللَّه الأعظم، وأن الصلاة التي هي الركن الركين في العبادات ومعراج المؤمن إلي ربّه مفتاحها وباب الولوج إليها إسم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله مقروناً باسم اللَّه تعالي.

ولو كان اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وذكره والتوجّه القلبي إليه أثناء العبادة موجباً للشرك لما أمكن تشريع الأمر علي هذا الحال، ولما أمر اللَّه عزّ وجلّ بالتوجّه إليه بنبيّه.

الشاهد الرابع: الهجرة التي هي من العبادات العظيمة عند اللَّه تعالي، وأكّدت عليها الآيات القرآنية في مواطن عديدة، لا يمكن أن تحصل إلّابالهجرة إلي اللَّه ورسوله، فلكي تصحّ عبادة الهجرة لابدّ أن يتوجّه فيها إلي اللَّه وإلي رسوله صلي الله عليه و آله.

قال اللَّه عزّ وجلّ: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَي اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» «1».

والذي يتحصّل من هذه الشواهد وغيرها أن إسم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وكذا أهل بيته عليهم السلام إقترن باسم اللَّه تعالي في أعظم العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، هذا فضلًا عمّا دونها من العبادات، وهو اقتران واجب في بعض موارده كما تقدّم في الصلاة، ومعني ذلك شرطية التوسّل والواسطة في العبادات كما ادّعيناه في بداية البحث.

وقد أحصي بعضهم في هذا المجال جملة من المواطن العبادية التي تقرن باسم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والصلاة عليه وعلي آله.

منها: في التشهّد الأول والثاني في الصلاة وآخر قنوت الصلاة وفي صلاة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 174

الجنائز وخطبة العيدين والجمعة والاستسقاء وبعد إجابة المؤذن وعند الإقامة وعند

الدعاء وعند دخول المسجد وعند الخروج منه، وعلي الصفا والمروة وعند الفراغ من التلبية وعند استلام الحجر وعند الوقوف علي قبره الشريف، وعقيب ختم القرآن الكريم، وعند الهمّ والشدائد وطلب المغفرة وعند تبليغ العلم، وعقب الذنب إذا أراد أن يكفّر عنه وبعد الفراغ من الوضوء وفي كلّ موطن يُجتمع فيه لذكر اللَّه، وعند طلب قضاء الحاجة وعقيب الصلوات في سائر أجزاء الصلاة غير التشهّد، إلي غير ذلك من المواطن.

وقد ذكر أيضاً للصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله، فوائد كثيرة جدّاً، منها:

1- أنها سبب لغفران الذنوب.

2- أنها تُصاعد الدعاء إلي عند رب العالمين.

3- أنها سبب لشفاعته صلي الله عليه و آله.

4- أنها سبب كفاية العبد ما أهمّه.

5- أنها سبب لقرب العبد منه يوم القيامة.

6- أنها سبب لقضاء الحوائج.

7- أنها سبب لتبشير العبد قبل موته بالجنّة.

8- أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة.

9- أنها سبب لتذكّر العبد ما نسيه.

10- أنها سبب لطيب المجلس.

11- أنها سبب لنفي الفقر.

12- أنها سبب لنفي البخل.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 175

13- أنها ترمي صاحبها علي طريق الجنّة وتخطي بتاركها عن طريقها.

14- أنها تُنجي من نتن المجلس.

15- أنها سبب لوفور نور العبد علي الصراط.

16- أنه يخرج بها العبد من الجفاء.

17- أنها سبب لابقاء اللَّه سبحانه الثناء الحسن للمصلّي عليه بين أهل السماء والأرض.

18- أنها سبب للبركة في ذات المصلّي وعمله وعمره وأسباب مصالحه.

19- أنها سبب لنيل رحمة اللَّه له.

20- أنها سبب لدوام محبته للرسول وزيادتها وتضاعفها.

21- أنها سبب لمحبّته صلي الله عليه و آله للعبد.

22- أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه.

23- أنها سبب لعرض اسم المصلّي وذكره عنده، إلي غير ذلك من الفوائد والثمرات.

الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة ضرورة قرآنية … ص: 175
اشارة

إن حقيقة هذا الدليل الخامس عبارة عن مزيد

إيضاح وتعميق ونظرة أدقّ لما تقدم من قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1».

وفي المقدّمة لابدّ من التنبيه علي أن التدبر في الآية الكريمة يفيد أن الابتغاء

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 176

المأمور به جعل متعلّقاً لكلّ من الوسيلة وذي الوسيلة وهو اللَّه عزّ وجلّ.

فجعل الابتغاء والقصد والتوجّه إلي كلّ من الوسيلة والذات الإلهية المقدّسة، فكلّ منهما أُمرنا بقصده والتوجّه إليه، إلّاأن القصد والتوجّه إلي الوسيلة ابتداءً هو الذي يؤدّي وينتهي بنا إلي قصد اللَّه تعالي، فالغاية القصوي هو اللَّه عزّ وجلّ، إلّاأن الذي يقصد ابتداءً هو الوسيلة بداعي القصد إلي منتهي الغاية والأمل وهو اللَّه تبارك وتعالي.

بل لعلّ التدبّر الأعمق والنظر الأدقّ في الآية المباركة يكشف عن أن لفظ «وابتغوا» أُسند إلي الوسيلة فقط، وأن لفظ «إليه» مرتبط بالوسيلة، لا ب «ابتغوا»، أي أن الوسيلة هي إليه، فالابتغاء متوجّه إلي الوسيلة فقط، وصفة الوسيلة أنها إليه.

وبعبارة أخري:

إن فعل «وابتغوا» عمل في لفظ «الوسيلة» كمفعول به، وأما لفظ «إليه» فليس متعلّقاً ب «ابتغوا» وإنما الذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ «الوسيلة»؛ إذ فيها معني المصدر والحدث، وأن التوسّل والوسيلة هو إلي اللَّه تعالي، فالابتغاء من جهة التركيب الإعرابي يعمل في الوسيلة فقط ويتعلّق بها، والوسيلة تتعلّق بلفظ إليه وتعمل فيه، وعليه فيكون الابتغاء والتوجّه والقصد بحسب ظاهر الدلالة متعلّقاً بالوسيلة، فهي التي يتوجّه إليها النداء والرجاء والخطاب، وحيث أن صفتها الذاتية أنها تؤدّي إلي اللَّه تعالي فيكون التوجّه إليها توجّهاً إلي اللَّه عزّ وجلّ ونداؤها نداءً بها إليه تعالي، وقصدها قصد بها إليه جلّ ثناؤه، كما في التوجّه إلي الكعبة واستقبالها، فإنه توجّه بها إلي اللَّه تعالي.

الامامة

الالهية(5)، ج 4، ص: 177

ومن ذلك يظهر أن مقتضي مفاد الآية هو أن الإلتجاء وتوجيه الخطاب إنما يكون إلي الوسيلة، كقول الداعي والمتوسل: يامحمّد يانبيّ الرحمة إني أتوجّه بك إلي اللَّه ربي وربك لقضاء حاجتي، فيوجّه الخطاب والنداء إلي النبيّ صلي الله عليه و آله ويكون ذلك منه ابتغاءً للنبيّ صلي الله عليه و آله كوسيلة إلي اللَّه عزّ وجلّ، وإلّا فإن جعل الخطاب للَّه تعالي فقط من دون التوجّه إلي النبي صلي الله عليه و آله في الخطاب كوسيلة، لا يكون ابتغاءً وطلباً وتوجهاً إلي الوسيلة، بل ابتغاء مباشري للَّه تعالي من دون ابتغاء الوسيلة.

وعلي كلا البيانين لدلالة الآية الشريفة تكون الآية نصّ في الدلالة علي الأمر بالتوجّه والنداء ودعاء الوسيلة وأنه دعاء للَّه تعالي.

ثم إن صيغة الأمر في الآية الكريمة يفيد ضرورة التوسّل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله.

حيث أن هذه الآية المباركة ليست في مقام بيان مشروعية التوسّل فحسب، بل الآية المباركة ترمي إلي بيان حتمية ولابدّية التوسّل، وأنه أمر تعيينيّ عينيّ، وذلك لأن المقصود من ابتغوا الوسيلة أي اقصدوها وتوجّهوا إليها في مقام توجّهكم إلي اللَّه عزّ وجلّ، ومعنيّ (ابتغوا) أيضاً في الآية المباركة أن هناك بُعداً بين العبد والباري تعالي وأن هناك مسافة لابدّ أن تطوي بابتغاء الوسيلة والحضور عندها، ولو كان هناك قُرباً تلقائياً من طرف العبد إلي ربّه فلا حاجة إلي الوسيلة حينئذٍ للإقتراب من اللَّه تعالي؛ لكونه تحصيلًا للحاصل ولا يكون معني للوسيلة وابتغائها ولو بنحو التخيير أيضاً.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 178

قرب اللَّه وقرب العبد: … ص: 178

فالأمر بابتغاء الوسيلة وقصدها معناه أن هناك بُعداً بين العبد وبين اللَّه تعالي، وهو بُعد من جهة العبد فقط لا من طرف الباري عزّ وجلّ، لأن اللَّه تعالي

قريب أقرب إلي العباد من حبل الوريد، كما قال تعالي ذكره: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإْنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» «1»

، لكن العبد من طرفه يحتاج إلي الوسيلة لبُعده؛ لأن قرب اللَّه تعالي إلي العبد ليس قرباً جسمانياً جغرافياً، لكي يكون هناك تلازم تضايفي بين العبد وربه في القرب والبُعد، وكذا ليس من نوع القرب العقلي أو الروحيّ ليحصل التجانس أو التماثل في القرب؛ وذلك لما تقدّم من كون اللَّه تعالي منزّه عن التضايف والتقابل الجسماني أو العقلي أو الروحي، لأنه تشبيه باطل مناف لعظمة ذات الباري تعالي.

إذن القرب الإلهي تجاه العبد قرب القدرة والسلطنة والهيمنة والإحاطة، فالمقتدر والمهيمن والمحيط كلّما كانت قدرته، وهيمنته وإحاطته أشدّ كلّما كان أقرب من المحاط به، وعلي العكس يكون الطرف المقابل الضعيف، فهو يزداد ضعفاً كلّما كان طرفه المقابل أشدّ قوة واقتداراً، كذلك كلّما ازداد المهيمن إحاطة ازداد الطرف الآخر مُحاطيّة وبُعداً عن أن يحيط بالمحيط، فالقويّ قريب محيط والضعيف بعيد محاط، ويبعد كلّما ازداد القويّ قوّة وهيمنة؛ لأن الضعيف حينئذٍ بعيد من حيث افتقاده للصفات والكمالات اللّامتناهية شدّة وعدّة، التي للقويّ المحيط.

والحاصل: إن هناك نمطاً من التعاكس في القرب والبُعد، فطرف يكون قريباً

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 179

والآخر بعيداً، كلّما ازداد الباري قرباً وإحاطة من حيث الصفات كلّما ازداد المخلوق بعداً من طرفه بالنسبة إلي اللَّه تعالي، وذلك من حيث التعاكس في الصفات.

ومن ثمّ لابدّ من ابتغاء الوسيلة التي هي أشدّ كمالًا وأقرب إلي الباري تعالي، لكي يطوي المخلوق شيئاً من ذلك البُعد وينال درجة من درجات القرب برقيّه في مدارج الكمال عن طريق الواسطة والوسيلة.

والوسيلة هي الأقرب إلي اللَّه تعالي من حيث الكمالات،

إذ كلّما تكامل المخلوق في الصفات ازداد قربه من الحضرة الربوبية، وكلّما عظم المخلوق صفة وكمالًا كلّما كان أقرب من الخالق لازدياد علمه ومعرفته بصفاته تعالي والعلم درجة من درجات القرب والوصول، إذ طالما تجلّت في المخلوق صفات الخالق أكثر عرف ذلك المخلوق بتلك الكمالات والصفات، صفات الخالق عزّ وجلّ؛ ولذا يكون أكمل المخلوقات أعرفهم بربّه وأقربهم منه وأكثر دلالة عليه وأشدّهم آية وعلامة ترشد إليه وتقرّب منه؛ لأن ما يتجلّي فيه من بديع الكمالات آيات لكمال الباري عزّ وجلّ، علي العكس من ذلك ما لو قلّت في المخلوق الكمالات، فإنه تقلّ فيه الآيات الدالّة علي عظمة اللَّه تعالي وقلّت بالطبع معرفته.

ومن هنا كان المخلوق الذي يتّسم بالضعف والفقر والحاجة والبعد عن اللَّه تعالي بحاجة إلي الوسيلة، التي هي أقرب صفة وكمالًا من اللَّه عزّ وجلّ، كي تكون سبباً يقرّبه إلي ربّه.

فالوسيلة والوسائط هي أعاظم المخلوقات، وهي آيات اللَّه وأسمائه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 180

وعلاماته الدالّة عليه، والتي يستدلّ الخلق بعظمتها علي عظمة الباري، فتزداد المعرفة ويحصل القرب بنيل الكمالات.

ولا شك أن الخطاب الوارد في الآية المباركة الكاشف عن ضرورة الوسيلة بالبيان المتقدم عامّ وشامل للتوبة ومطلق العبادات وللمعرفة والإيمان أو التوجّه إلي الحضرة الإلهية لنيل مقام أو حظوة عند اللَّه تعالي.

الوسيلة معني الشفاعة: … ص: 180

فللعلاقة بين العبد وربّه ولقطع مسافة البُعد لابدّ من الوسيلة، سواء في المعرفة والإيمان أو في قبول التوبة أو العبادات أو نيل المقامات، وقد أُطلق عن مثل هذا المقام في لسان الشارع بالشفاعة؛ لأن الشفع في الأصل بمعني الزوج والاقتران، وهو في المقام اقتران الذات الربوبية بالآيات والأسماء الإلهية.

ثم إنه سبق أن الآيات العظمي والكلمات التامّات هم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله

وأهل بيته عليهم السلام، وقد وصف اللَّه تعالي رسوله الكريم صلي الله عليه و آله بالعظمة، وذلك في قوله تعالي: «وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ» «1»

، فهم عليهم السلام الأسماء الحسني التي أمر اللَّه أن يُدعي بها وتاب بها علي آدم وامتحن بها إبراهيم عليه السلام لنيل مقام الخلافة والإمامة، وهذا البيان الذي ذكرناه، من ضرورة الواسطة والوسيلة لعظمة اللَّه تعالي هدي إليه أمير المؤمنين عليه السلام عند بيانه لقوله تعالي: «أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَي رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 181

مَحْذُورًا» «1».

حيث بيّن أمير المؤمنين عليه السلام ضرورة الوسيلة، وأن اشتباه وخطأ المشركين إنما هو في اتخاذهم وسيلة اقتراحية غير مأذون بها، حيث طبّقوا الوسيلة الأعظم كمالًا علي غير المصداق والفرد الحقيقي لها، فذمّهم اللَّه عزّ وجلّ علي ذلك.

قال أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال: «فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغي من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة، فكلّ محمول يحمله اللَّه بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً» «2»

.فإن الأعمال المختلفة والأديان المشتبهة ناتج اتخاذ الخلق الوسيلة إلي اللَّه تعالي، بسبب عظمته ونوره وتعاليه عزّوجلّ.

ومن ذلك كلّه يتّضح أن من ينكر التوسّل أسوء حالًا من قريش، التي آمنت بالوسيلة وأخطأت المصداق، حيث جعلوا وسائط باقتراحهم من غير سلطان أتاهم؛ لشعورهم بالفطرة التي خلقهم اللَّه عليها بعظمته تعالي عن أن ينال أو يدرك بلا واسطة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 182

ترامي الوسائل وتعاقبها: … ص: 182

ثم إن الآيات الكبري تتفاوت فيما بينها، فأهل البيت عليهم السلام شفيعهم ووسيطهم إلي اللَّه

تعالي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في نيل المقامات، وبالنسبة للنبيّ ذاته فهو بذاته آية وعلامة عظمي علي صفات اللَّه تعالي، فتكون نفسه من حيث هي مخلوقة وفعل للَّه تعالي وسيلة لنفسه، نظير ما ورد في الروايات: (خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيّة) «1».

فالنبيّ صلي الله عليه و آله مرآة الكمالات والصفات الإلهية له ولغيره في جميع جهات الإرتباط باللَّه تعالي كقبول التوبة أو بقيّة العبادات أو مطلق نيل مقامات القرب من اللَّه عزّ وجلّ فهو صلي الله عليه و آله أمينه علي وحيه وعزائم أمره.

الدليل السادس: شرطية الاستجارة بالنبيّ صلي الله عليه و آله في طلب المغفرة … ص: 182

هنا أيضاً نريد التعرّض لبيان أدقّ وأعمق ودالّ علي المطلوب في المقام لقوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «2».

لقد نصّت هذه الآية المباركة علي ثلاثة شروط لقبول التوبة والاستغفار من هذه الأمة، وهي:

1- المجي ء إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله.

2- ابراز الاستغفار من اللَّه عزّ وجلّ.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 183

3- امضاء النبيّ صلي الله عليه و آله لذلك الاستغفار، واستغفاره للتائبين.

فهذه الآية من ضمن مجموع الآيات التي تعرّضت لذكر شرائط التوبة، وأوّل شرط لقبول توبة المذنب والظالم لنفسه ليس إظهار الندامة من العبد أمام اللَّه تعالي مباشرة، بل الشرط الأوّل هو المجي ء إلي الحضرة النبويّة والالتجاء إليه، واللّواذ والاستعاذة والاستجارة به صلي الله عليه و آله، فأولًا لابدّ أن يأتي العبد إلي النبيّ صلي الله عليه و آله ويلوذ به، ثم بعد ذلك يُظهر الندامة والاستغفار؛ إذ الترتيب للشروط في الآية المباركة ترتيب رتبي ترتيبي، حيث أخذت المراتب بعين الاعتبار، لا أنه ذكري فقط بقرينة العطف بالفاء.

والمجي ء إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه

و آله هو عين التوجّه إليه والتوسّل به في قبول التوبة.

وهذه الآية كشفت النقاب عن شرطية التوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله في أكبر خطر مصيريّ يُحدق بالإنسان وهو الذنب والمعصية، التي قد تؤدّي بالعبد إلي الهلاك والسقوط في الهاوية، في مثل هذا الأمر الخطير جعل اللَّه تعالي الملاذ والملجأ هو النبيّ صلي الله عليه و آله، فلابدّ من الكينونة في الحضرة النبوية ثم إظهار عبادة الاستغفار، لأنه صلي الله عليه و آله باب اللَّه تعالي الذي منه يؤتي، فيكون اللّواذ باللَّه عزّ وجلّ باللّواذ بنبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله؛ ولذا بعد الاستجارة بالنبيّ صلي الله عليه و آله قال تعالي: «لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا».

إذن الاستعاذة والاستجارة واللجوء إلي اللَّه بنبيّه أُخذ شرطاً في أخطر موقف للعبد مع ربّه وهو التوبة وغفران الذنوب.

ومن الواضح أيضاً أن الظلم المذكور في الآية المباركة ليس مختصّاً بالذنوب

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 184

الفردية التي بين العبد وربّه، وإنما هو شامل للظلم الاجتماعي السياسي أو النظام الاقتصادي المعاشي أو التعدّي علي المنظومة الحقوقية والأخلاقيّة، ومعني ذلك أن استعلام ومعرفة تلك الأمور الفردية والاجتماعية لا يمكن أن يتحقّق إلّاعن طريق الإلتجاء واللّواذ بالنبيّ صلي الله عليه و آله، فكلّ حيف أو زيغ يحصل من الفرد أو المجتمع في تلك الأمور لابدّ من الرجوع فيها إلي الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله، وفي مقابل تعدّد أنواع الظلم يتعدّد أنواع اللجوء والتولّي والتوجّه للنبي صلي الله عليه و آله.

ثم إن ذكر التوبة والاستغفار في الآية المباركة لا لخصوصية فيها، وإنما ذكرت بما هي عبادة من العبادات، لكونها أوبة ورجوع إلي اللَّه تعالي واقتراب منه وقصد وتوجّه إليه، فليست الآية في

ذكرها لشرطية التوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله خاصّة بالتوبة، بل هي شاملة في ذلك لكلّ العبادات.

خصوصاً وأن التوبة هي الأوبة، من آب يؤوب، والأوبة الرجوع إلي اللَّه تعالي، أي الاقتراب والزلفي منه عزّوجلّ، ولا شك أن العبادات بمجموعها طلب الأوبة والقرب والزلفي إلي اللَّه تعالي، فهي نوع من أنواع التوبة، وبناءً علي ذلك لا تكون التوبة عملًا منحازاً ومنفصلًا عن سائر العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، بل هي عمل عام وشامل لكافّة العبادات.

كذلك التوبة نوع من أنواع الدعاء، لأنها طلب المغفرة من اللَّه تعالي ودعاء بالغفران، فمضمون هذه الآية المباركة مشترك مع ما تقدم من الروايات الدالّة علي أن الدعاء وطلب العبد القرب من اللَّه تعالي لا يرتفع إلي السماء ولا تُفتّح له الأبواب ما لم يقترن بذكر النبيّ صلي الله عليه و آله بالصلاة علي محمّد وآل محمّد، وإذا كان كذلك فإن الدعاء وطلب القرب من اللَّه عزّ وجلّ شامل للمقامات الثلاث التي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 185

ذُكرت في صدر البحث، وهو قبول التوبة والعبادة ونيل مقامات القرب، وهو لا يقبل إلّاباللّواذ بالنبيّ صلي الله عليه و آله والتوجّه إليه والاستعاذة والاستجارة والتوسّل به، بالمجي ء في حضرته المباركة.

وهذه الآية الكريمة الدالّة علي شرطية التوجّه التوسّل وضرورته في جميع المقامات ليست خاصّة بحياة النبيّ صلي الله عليه و آله؛ إذ ليس المراد من المجي ء الحضور الفيزيائي لبدن المذنب عند النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله فقط، بل المجي ء الفيزيائي والبدني المكاني أحد المصاديق المقصودة في الآية المباركة، والتعبير بالمجي ء كنائي، يراد به مطلق الاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبي إلي النبيّ صلي الله عليه و آله، والشواهد علي ذلك عديدة، منها:

1- إن هذه الآية المباركة جاءت

لبيان ماهية التوبة وشرائطها العامة، التي يشترك فيها كافّة المسلمين وفي جميع الأزمنة، فلا يمكن أن تكون مختصّة بالفترة التي عاشها النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أو بمن زامن وعايش تلك الفترة، فالمراد من المجي مطلق الارتباط بالنبيّ صلي الله عليه و آله، بالتوجّه إليه والكينونة في حضرته المباركة، ثم الاتيان بعبادة الاستغفار، وهذا المضمون متطابق مع مفاد قوله تعالي: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي»، إذ معني ذلك أن حضرة الأنبياء ومحضرهم مشاعر شعّرها اللَّه تعالي ليتقرّب بها إليه.

ويتّضح هذا الشاهد أكثر إذا علمنا أن النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله بُعث رحمة للعالمين، وهذه من الرحمات العامة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله علي هذه الأمة، وغير مختصّة بمن حضر الحضور الفيزيائي البدني عند النبيّ صلي الله عليه و آله.

2- إن نفس التعبير بقوله تعالي «جَاءُوكَ» يتضمّن معني اللّواذ واللجوء

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 186

والاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبي، وليس فيه دلالة علي الاختصاص بالحضور الجسماني.

3- استغفار آدم عليه السلام وتوبته أيضاً كما مرّ- كانت بالمجي ء للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، ولكن كان مجيئه إليه في أفق القلب والقصد، فقد ورد في روايات الفريقين أن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «لما اقترف آدم الخطيئة، قال: ياربّ أسألك بحقّ محمّد لما غفرت لي، فقال: ياآدم وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: ياربّ لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت علي قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنك لم تُضف إلي اسمك إلّاأحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت ياآدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد ما خلقتك»

«1»

وغيرها من الروايات الدالّة علي أن مجي ء آدم إلي النبيّ صلي الله عليه و آله ولواذه به كان بالتوجّه القلبي به إلي اللَّه تعالي.

وفي هذه الرواية الأخيرة التي نقلناها إشارة أخري إلي اقتران اسم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله باسم اللَّه عزّ وجلّ في أعظم عبادة وأشرف كلمة في الإسلام، وهي كلمة التوحيد.

4- إن المسلمين في سيرتهم منذ الصدر الأول فهموا من هذه الرواية الشمول والعموم وعدم الاختصاص بالفترة الزمنية التي عاشها النبيّ صلي الله عليه و آله، وهذا دليل علي عموم المعني المستعمل في ارتكاز أبناء اللغة، ولذا كانوا يتوجّهون إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في طلب المغفرة ويأمرون الآخرين بذلك حتي بعد وفاة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، والشواهد الروائية والتاريخية علي ذلك كثيرة جدّاً:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 187

منها: ما أخرجه النووي عن العتبي قال: «كنت جالساً عند قبر النبيّ صلي الله عليه و آله فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك يارسول اللَّه، سمعت اللَّه تعالي يقول: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1»

وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلي ربّي، ثم أنشأ يقول:

ياخير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم

قال: ثم انصرف، فحملتني عيناي فرأيت النبيّ صلي الله عليه و آله في النوم، فقال لي:

ياعتبي، إلحق الأعرابي فبشّره بأن اللَّه تعالي قد غفر له» «2».

ومنها: ما أخرجه السيوطي عن أبي حرب الهلاليّ قال: (حجّ أعرابي، فلما جاء إلي باب مسجد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتي دخل

القبر ووقف بحذاء وجه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فقال: بأبي أنت وأمي يارسول اللَّه، جئتك مثقلًا بالذنوب والخطايا مستشفعاً بك علي ربّك، لأنه قال في محكم كتابه: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «3»

وقد جئتك بأبي أنت وأمي مثقلًا بالذنوب والخطايا استشفع بك علي اللَّه ربّك أن يغفر لي ذنوبي وأن يشفع فيّ) «4».

ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: «قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بثلاثة أيام فرمي بنفسه علي قبر النبيّ صلي الله عليه و آله

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 188

وحثا من ترابه علي رأسه، وقال: يارسول اللَّه قلت فسمعنا قولك ووعيت عن اللَّه فوعينا عنك، وكان فيما أنزل اللَّه عليك: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1»

وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر أنه غفر لك» «2»

، إلي غير ذلك من الشواهد.

5- إن القرآن الكريم قد دلّ علي حياة النبي صلي الله عليه و آله عند ربّه، كما قال تعالي:

«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَي عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «3»

بل وكذا قوله تعالي: «يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَي هَؤُلَاءِ» «4»

وغيرها من عشرات الآيات الدالّة علي أن النبي صلي الله عليه و آله يري ويشهد علي جميع أعمال العباد إلي يوما لقيامة، فهو حيّ عند ربّه، كيف لا وقد دلّ القرآن علي حياة الشهداء في قوله تعالي: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ

اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» «5»

، وقد اتّفقت روايات الفريقين المتواترة أيضاً الدالّة علي حياة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، منها ما ورد عن الإمام الحسن عليه السلام قال: «إن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال:

حيثما كنتم فصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني» «6».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 189

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون» قال الهيثمي: رواه أبو يعلي والبزاز ورجال أبي يعلي ثقات «1».

وقد نقل السقّاف في كتابه الاغاثة جملة من الروايات وكلمات علماء السنّة التي ادّعي فيها الاجماع والتواتر والعلم القطعي بحياة النبيّ الأكرم فراجع «2».

وإذا ثبت ذلك ثبت عموم الآية المباركة بالرجوع إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والاستغاثة به.

6- آيات وروايات عرض الأعمال علي الرسول صلي الله عليه و آله، كما في قوله تعالي:

«قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَي عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «3»

وهذه الآية متطابقة ومتشاهدة مع آية «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ …»، وأما الروايات في هذا المجال فهي كثيرة جدّاً:

منها: ما عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: «تعرض الأعمال علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كلّ صباح أبرارها وفجّارها فاحذروها» «4».

ومنها: ما عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «إن الأعمال تعرض علي نبيكم كلّ عشية خميس، فليستحي أحدكم أن يعرض علي نبيه العمل القبيح» «5».

منها: ما ورد عن عبداللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «حياتي خير لكم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 190

تحدّثون وتحدّث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم، فما رأيت من

خير حمدت اللَّه عليه، وما رأيت من شرّ استغفرت لكم»، قال الهيثمي: رواه البزاز ورجاله رجال الصحيح «1».

وهذه الرواية وغيرها منسجمة المضمون مع الشرط الثالث في الآية التي هي محلّ البحث، حيث جاء فيها «وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ»، فالتائب والمستغفر يتوجّه إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله ويعرض استغفاره عنده لكي يستغفر له الرسول صلي الله عليه و آله ويشفع له عند اللَّه تعالي في قبول توبته، فعبادات الأمة لابدّ أن يشفع النبيّ صلي الله عليه و آله عند ربّه في قبولها، وهو المضمون والغرض والحكمة من عرض الأعمال وأن قبولها مشروط بإمضاء النبيّ صلي الله عليه و آله وشفاعته، فكما أن آيات وروايات عرض الأعمال ذكرت أن سبب العرض هو أن يستغفر النبيّ صلي الله عليه و آله لأمته، كذلك في الآية المباركة إنما يعرض العبد استغفاره في الحضرة النبويّة لكي يستغفر له، وإذا كانت آيات وروايات العرض عامة لحال الحياة وبعد الممات فكذلك الآية المباركة.

وهذا الذي ذكرناه أخيراً هو الشرط الثالث في الآية المباركة وهو استغفار النبيّ صلي الله عليه و آله للمذنب الظالم لنفسه.

7- أن الأحكام في الآيات التي أخذ فيها الحكم مرتبطاً بالرسول صلي الله عليه و آله في الآيات الكثيرة كلّها لا تختص بحياة الرسول صلي الله عليه و آله كما في قوله تعالي: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» «2»

وقوله تعالي: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 191

الرَّسُولَ» «1»

وقوله تعالي: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «2»

وقوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «3»

وغيرها من الآيات، فإنه لو توهم اختصاصها بحياته صلي الله عليه و آله الدنيوية لعُطّل العمل بهذه الآيات، وتقوّضت أركان الدين.

والذي

يتحصّل من الآية: أن المجي ء إلي النبيّ صلي الله عليه و آله والتوجّه إليه شرط في قبول التوبة، بل كافّة العبادات ومطلق المقامات القربية عند اللَّه تعالي.

كما يستفاد من الآية المباركة أيضاً أن التوسّل والتوجّه أمر تعييني ضروري لابدّ منه، وليس هو أمراً تخييرياً بيد العبد فعله أو تركه.

واتضح أن التوجّه للنبيّ صلي الله عليه و آله في تلك المقامات ليس خاصّاً بالتوجّه الفيزيائي البدني، بل شامل للتوجّه القلبي أيضاً.

ثم إن المجي ء إلي النبيّ والتوسّل به بمعني الارتباط به والإنتماء إليه بكلّ أنحاء الانتماء، كانتماء المواطنة والانتماء الأُسري والوظيفي والتنظيمي، وغيرها من أنحاء الانتماء إلي الرسالة الخاتمة والحاكمية الإلهية المتمثّلة بالنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

كذلك لابدّ أن يعلم أن الآية الخاصّة في المقام غير مختصّة بالرسول الأعظم صلي الله عليه و آله، بل هي سنّة إلهيّة جارية في النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام فالآية عامة؛ ولذا نصّت علي هذا العموم آية عرض الأعمال، حيث شملت الذين آمنوا وهم أولوا الأمر من أهل بيت النبيّ صلي الله عليه و آله، كما نصّ علي ذلك قوله تعالي: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 192

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ» «1»

إذ هم الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل المجتباة الذين بعث فيهم النبي صلي الله عليه و آله وجعلهم اللَّه شهداء علي الناس وأعمالهم وعقائدهم، ويدلّ علي العموم أيضاً الآيات المتقدّمة التي نصّت علي وجوب المجي ء إلي إبراهيم في الحجّ ووجوب الصلاة عند مصلّاه وهويّ القلوب إلي ذرّيته، وسيأتي من

الآيات ما يدلّ علي العموم أيضاً.

إذن التوجّه إلي النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام في التوبة والعبادة ونيل المقامات شرط ومشارطة إلهية لابدّ من توفّرها لنيل ما يبتغيه العبد.

الدليل السابع: التوسّل بالرسول صلي الله عليه و آله ميثاق الأنبياء … ص: 192
اشارة

قال تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «2»

، فالميثاق المذكور في هذه الآية المباركة معناه أن هناك تعاقداً بين اللَّه تعالي والأنبياء عليهم السلام، والطرفان اللذان وقع عليهم الميثاق والتعاقد هما النبوّة والمقامات الغيبة التي أعطاها اللَّه تعالي للأنبياء في مقابل أمر مهمّ وخطير لابدّ أن يؤمنوا به، وهو قوله تعالي: «ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» فالمقامات الإلهية والمنح

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 193

الربّانية إنما تعطي للأنبياء بشرط الإيمان بخاتمهم ونصرته، ولا شك أن الذي يكون ناصراً إنما هو تابع للمنصور والمنصور قائد له، فالأنبياء كلّهم مأمومون والرسول الأكرم إمامهم، والأنبياء سبقوا الناس بالإصطفاء الإلهي الخاصّ وحُبوا بالنبوّة والرسالة والمقامات الغيبيّة بتوسّط إيمانهم بولاية النبيّ صلي الله عليه و آله وتعهّدهم بنصرته ومؤازرته، وهم أسبق الناس شيعة وإسلاماً لخاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله.

الأنبياء علي دين النبي الأكرم صلي الله عليه و آله: … ص: 193

ومن ثمّ فإن هذه الآية المباركة تدلّل علي أن دين الأنبياء بعد الايمان باللَّه عزّ وجلّ هو الإيمان بخاتم الأنبياء ومشايعته ومؤازرته، فالأنبياء كانوا علي دين النبيّ محمّد صلي الله عليه و آله وهو الإسلام، بيان ذلك:

إن قوله تعالي في الآية المباركة «مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ» معناه أن النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله ليس تابعاً للأنبياء، بل تابع للوحي الإلهي جملة، الذي هو فعل اللَّه تعالي؛ ولذا لم يأمر اللَّه عزّ وجلّ نبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله بالاقتداء بالأنبياء وإنما بالهدي الذي هم عليه، قال اللَّه تعالي: «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ» «1».

فالنبيّ الأكرم صلي

الله عليه و آله ليس علي هدي نبيّ من الأنبياء وليس هو تابعاً لأحد من الرسل، بل هو علي هدي اللَّه عزّ وجلّ، وهو أوّل المسلمين، والفاتح الأول للهدي الإلهي والدين الاسلامي الواحد هو خاتم الأنبياء، ولم يُعبَّر عن نبيّ من الأنبياء في القرآن الكريم بأنه أوّل المسليمن علي الاطلاق سوي النبيّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 194

محمّد صلي الله عليه و آله، وذلك في قوله تعالي: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ» «1»

وقوله تعالي: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَاشَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» «2»

وقوله تعالي: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ* وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» «3»

، وأما سائر الأنبياء فقد عُبّر عنهم في القرآن الكريم بأنهم من المسلمين، بما فيهم أنبياء أولي العزم، فقد حكي اللَّه عزّ وجلّ علي لسان نوح قوله:

«فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَي اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» «4»

ولم يُعبَّر عنه بأنه أوّل المسلمين، ولا شك أن الدين عند اللَّه عزّ وجلّ واحد، قال تعالي: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإْسْلَامُ» «5»

، ولا يتقبّل من مخلوق من المخلوقات غير الاسلام، قال تعالي: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإْسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» «6»

، فالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أوّل المسلمين وأوّل من نطق بميثاق التوحيد والتسليم للَّه عزّ وجلّ، فكان هو أفضل الأنبياء وهو الإمام المتبوع وهم المأمومون التابعون له في الدين الاسلامي، فضلًا عن غيرهم من المخلوقين، ولذا ورد في الحديث عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «أن بعض قريش قال لرسول اللَّه

صلي الله عليه و آله:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 195

بأي شي ء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أوّل من آمن بربّي وأوّل من أجاب حين أخذ اللَّه ميثاق النبيين «وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي» فكنت أنا أوّل نبيّ قال بلي، فسبقتهم بالإقرار باللَّه» «1».

وفي الحديث أيضاً عن النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في حديثه لأصحابه قال: «فأخذ لي العهد والميثاق علي جميع النبيين، وهو قوله الذي أكرمني به جلّ من قائل: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «2»

وقد علمتهم أن الميثاق أخذ لي علي جميع النبيّين، وأنا الرسول الذي ختم اللَّه بي الرسل، وهو قوله تعالي: «رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» «3»

فكنت واللَّه قبلهم وبعثت بعدهم وأعطيت ما أعطوا وزادني ربّي من فضله ما لم يعطه لأحد من خلقه غيري، فمن ذلك إنه أخذ لي الميثاق علي سائر النبيّين ولم يأخذ ميثاقي لأحد، ومن ذلك ما نَبَّأ نبيّاً ولا أرسل رسولًا إلّاأمره بالإقرار بي وأن يبشّر أمته بمبعثي ورسالتي» «4».

اذن فالدين دين محمّد صلي الله عليه و آله وهو فاتح ذلك الصرح العظيم، وإن كانت الفطرة والملّة ملّة إبراهيم عليه السلام وهي غير الدين، وكذلك للأنبياء شرائع ومناهج مختلفة وهي غير الدين أيضاً، وإنما هي تفصيلات وتنزّلات كلّيات ذلك الدين الحنيف وهو الإسلام، ولذا جاء في دعاء التوجّه في الصلاة:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 196

«وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً علي ملّة إبراهيم ودين محمّد صلي الله عليه و آله وهدي علي أمير

المؤمنين عليه السلام وما أنا من المشركين» «1».

إذن الإسلام دين النبيّ والأنبياء علي دينه ومن شيعته، ولذا فُسّر قوله تعالي:

«وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ» «2»

بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأن إبراهيم من شيعته وعلي دينه الحنيف، حيث ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «قوله عزّ وجلّ: «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ» أي إن إبراهيم عليه السلام من شيعة النبيّ صلي الله عليه و آله» «3»

وقد اختار هذا القول الكلبي وابن السائب والفرّاء «4».

فالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله ليس تابعاً للأنبياء بل علي العكس، فهو علي الهدي الذي هو هدي اللَّه تعالي، ومصدّق لما مع الأنبياء، أي شاهد علي ما هم عليه من دينه الحنيف وبإمضائه يُصدّق ما هم عليه، أما الأنبياء فهم يؤمنون بخاتم الأنبياء «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ» لا أنهم يؤمنون بما معه، فإيمانهم بذات النبيّ صلي الله عليه و آله، فهو صلي الله عليه و آله شاهد مطّلع مصدّق علي ما عندهم، وأما هم فيؤمنون به، وهذا يعني أنه لا يوجد في مقامات الأنبياء ودرجاتهم عند اللَّه تعالي ما هو غيب عن النبيّ صلي الله عليه و آله، وأما الذي يؤمن بذات النبيّ صلي الله عليه و آله وهم سائر الأنبياء عليهم السلام فهو يؤمن بأمر غيبيّ، فمقام النبيّ صلي الله عليه و آله بالنسبة إلي باقي الأنبياء غيب الغيوب، وأما مقامات سائر الأنبياء فالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله مطّلع عليها ويعلمها ويشهد لهم علي صدقها، والأنبياء في أصل نيلهم لمقام النبوّة إنما استأهلوه بعد أن آمنوا بخاتم الأنبياء قبل سائر

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 197

الأرواح في عالم الأرواح وشرطوا علي أنفسهم نصرته، ولذا فإن النبيّ صلي الله عليه و

آله شفيع الكلّ، والأنبياء لم ينالوا ما نالوا إلّابالديانة لخاتم الأنبياء، فهو الشفيع لقبول الأعمال، وهو باب رحمة اللَّه العامّة «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «1».

ومن ذلك كلّه يتّضح أن هذه الآية المباركة نصّ في المقام الثالث، وأن التوجّه إلي اللَّه لنيل أي مقام أو قربي أو زلفي لا يتمّ إلّابالتوسل بالنبيّ صلي الله عليه و آله والتشفّع به، وبالتشفّع به يعطي للعبد أعظم الأرزاق وهو النبوّة والكتاب والحكمة، فكيف بك بسائر الأرزاق الأخري، التي لا تقاس بمقامات الأنبياء.

ثم إن الآية الكريمة رسمت خطورة الأمر في ضمن تأكيدات مغلّظة، حيث جاء فيها قوله تعالي: «أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي» وبعد أن تم الإقرار والمعاهدة والمعاقدة المشدّدة أشهدهم اللَّه تعالي علي ذلك، حيث قال:

«فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «2»

، وهذا يعني أن للتوسل والتوجّه دوراً مهمّاً ومحورية رئيسية في رسم معالم الدين.

وإنكار التوسّل في المسائل الدنيوية غير الخطيرة ليس إلّاتعظيماً لصغائر الأمور وتصغيراً لما عظّمه اللَّه عزّ وجلّ، فإن الإيمان بكون الأنبياء لم يستحقّوا ما استحقّوه إلّابتوسلهم بالإيمان بالنبيّ صلي الله عليه و آله، وإنكار التوسّل في بعض الأمور الدنيويّة والحاجات المعاشية ليس له معني إلّاالاستهانة بتلك المقامات الشامخة وتعظيم وتهويل ما ليس حقّه ذلك.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 198

أهل البيت عليهم السلام شركاء النبيّ صلي الله عليه و آله في الميثاق: … ص: 198

ثمّ إن أهل البيت عليهم السلام يشتركون مع النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في دائرة الميثاق والدين الحنيف، الذي أخذ علي الأنبياء الإيمان به ونصرته والدعوة إليه، وإن كان أهل البيت عليهم السلام تابعين للنبيّ صلي الله عليه و آله وهم يتوجّهون به إلي اللَّه تعالي، وبشفاعته يكونون معه صلي الله عليه و آله في مقامه، وهو مقام الشفاعة الكبري والوسيلة العظمي.

ويدلّ علي اشتراك أهل

البيت عليهم السلام مع النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في دائرة الميثاق الذي أخذ علي الأنبياء وجوه عديدة، وإليك بعضها:

1- إن نصرة الأنبياء للرسول صلي الله عليه و آله لم تتحقّق إلي يومنا الحاضر، وهي إنما تتحقّق بالنصرة لأهل بيته عند ظهور المهدي من آل محمّد، وعند رجعة الأئمة عليهم السلام، كما نصّت علي ذلك الروايات المتضافرة، حيث جاء فيها أن عيسي عليه السلام وإدريس وغيرهما من الأنبياء سوف يقاتلون بين يدي الإمام المهدي عليه السلام عند قيامه بدولة الحقّ والعدل، هذا من طرق الفريقين، وأما من طرقنا فقد دلّت الروايات المتضافرة أيضاً علي أن جميع الأنبياء والمرسلين سوف يقاتلون مع الأئمة عليهم السلام عند رجوعهم وكرّتهم في دولتهم العالمية المباركة.

بل إن بعض الأنبياء كإلياس والخضر عليهما السلام علي القول بنبوّة الخضر عليه السلام الآن هم وزراء في حكومة الإمام المهدي عليه السلام الخفيّة، وهي حكومة خليفة اللَّه في أرضه، التي لا يمكن أن تفتقدها البشرية في لحظة من اللحظات، وإلّا لساخت الأرض بأهلها.

ونشير فيما يلي إلي بعض تلك الروايات التي وردت في هذا المجال:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 199

منها: طوائف الروايات التي دلّت علي أن المسيح عيسي بن مريم عليه السلام ينزل لنصرة المهدي عليه السلام، وإليك فيما يلي هذه الرواية، ننقلها بطولها لارتباطها بالبحث الذي نحن فيه، قال أبو عبداللَّه الصادق عليه السلام: «أتي يهودي النبيّ صلي الله عليه و آله، فقام بين يديه يحدّ النظر إليه، فقال: يايهودي ما حاجتك؟ قال: أنت أفضل أم موسي بن عمران النبيّ الذي كلّمه اللَّه، وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظلّه بالغمام؟

فقال له النبيّ صلي الله عليه و آله: إنه يكره للعبد أن

يزكّي نفسه، ولكنّي أقول: إن آدم عليه السلام لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما غفرت لي فغفرها اللَّه له، وإن نوحاً عليه السلام لما ركب في السفينة وخاف الغرق، قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما نجّيتني من الغرق، فنجّاه اللَّه منه، وإن إبراهيم عليه السلام: لما ألقي في النار قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما نجّيتني منها، فجعلها اللَّه عليه برداً وسلاماً، وإن موسي عليه السلام لما ألقي عصاه أوجس في نفسه خيفة، قال اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما آمنتني منها، فقال اللَّه جلّ جلاله: «لَاتَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَي» «1»

يايهودي: إن موسي لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوّتي ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته نبوّته.

يايهودي ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسي بن مريم لنصرته، فقدّمه وصلّي خلفه» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 200

وفي حديث آخر: «فيلتفت المهدي فينظر عيسي عليه السلام فيقول لعيسي: ياابن البتول صلّ بالناس، فيقول: لك أقيمت الصلاة، فيتقدّم المهدي فيصلّي بالناس ويصلّي عيسي خلفه ويبايعه» «1».

ولا شك أن المبايعة لأجل نصرته عليه السلام لإقامة دولة الحقّ، بقرينة تتمّة الرواية حيث ورد فيها أن المسيح عيسي بن مريم عليه السلام بعد المبايعة يكون من وزراء المهدي عليه السلام ويخرج لقتال الدجال.

ومنها: الروايات التي دلّت علي أن نصرة الأنبياء للرسول الأكرم صلي الله عليه و آله إنما تحصل بالنصرة لوصيّه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام والقتال بين يديه عند الكرّة والرجعة في دولة الحقّ، وذلك نظير ما أخرجه سعد بن عبداللَّه القمي عن فيض بن أبي شيبة، قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول،

وتلا هذه الآية: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ»: «لتؤمننّ برسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولتنصرنّ علياً أمير المؤمنين عليه السلام.

قال: نعم واللَّه من لدن آدم وهلمّ جراً، فلم يبعث اللَّه نبيّاً ولا رسولًا إلّاردّ جميعهم إلي الدنيا حتّي يقاتلوا بين يدي عليّ بن أبي طالب عليه السلام» «2».

ومن الواضح أن نصرة أمير المؤمنين عليه السلام نصرة لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله وللدين الذي جاء به.

وحاصل هذه النقطة: هو اشتراك أهل البيت عليهم السلام مع النبيّ صلي الله عليه و آله في الميثاق الذي أخذ علي الأنبياء، إذ أن إيفاءهم بالعهد إنما يكون بنصرتهم لأهل بيت النبيّ صلي الله عليه و آله.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 201

2- مرّ بنا أن الدين عند اللَّه الإسلام وهو واحد لا تعدّد فيه، وأن جميع المخلوقات بما فيهم سائر الأنبياء عجزوا عن تحمّل الدين والسبق في فتح سبله وبلوغ مقاماته الرفيعة، سوي الذات النبويّة المباركة التي لها الأهلية والاستعداد لتلقّي ذلك عن اللَّه عزّ وجلّ، فكان للنبيّ صلي الله عليه و آله الأسبقية في الإسلام والتسليم للَّه تعالي؛ ولذا كان الدين دين محمّد صلي الله عليه و آله، إذن دين الإسلام الواحد عبارة عن تلك المقامات السامية والنور الأعظم الذي لم يتحمّله مخلوق عن اللَّه تعالي سوي خاتم الرسل صلي الله عليه و آله، فأسكن اللَّه عزّ وجلّ ذلك النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وكان بدن النبيّ الأكرم مسكناً لذلك النور، لأنه أوّل من قال بلي عندما قال اللَّه تعالي للبشر: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ».

ومن هنا يتّضح أن الميثاق والعهد الذي أخذه اللَّه علي أنبيائه هو الإيمان بذات الرسول صلي الله عليه و آله، والإيمان

بمقامه صلي الله عليه و آله هو الدين الذي بعث به جميع الأنبياء، وهو بدرجاته العالية غيب اللَّه وسره المكنون الذي أمر الأنبياء بالإيمان به والتسليم له، وكان نيل مقامات النبوّة علي قدر درجة التسليم لذلك الدين، وقد مدح اللَّه تعالي أنبياءه لكونهم مسلمين، قال عزّ وجلّ: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» «1»

، وقد أمر اللَّه تعالي أنبياءه باتخاذ الاسلام ديناً، كما في قوله لإبراهيم: «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ» «2».

إذن الدين الواحد هو الميثاق الذي أخذ علي جميع الأنبياء التسليم له

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 202

والإيمان به ونصرته، وهو دين النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله المتمثّل برسالته ووساطته بين اللَّه وخلقه، فهو دين اللَّه الناطق.

وإذا كان الأمر كذلك فكلّ ما هو داخل في دائرة الدين يكون من الميثاق الذي أخذ علي الأنبياء الإيمان به ونصرته والتسليم له، ومن الدين ولاية أهل البيت عليهم السلام بنصّ القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالي: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلَامَ دِينًا» «1»

حيث نصّت روايات الفريقين علي أن هذا المقطع من الآية المباركة نزل عند تنصيب اللَّه عزّ وجلّ أمير المؤمنين عليه السلام لمقام الخلافة والإمامة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وذلك في واقعة الغدير «2».

إذن الولاية والخلافة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله من الدين الذي بعث به جميع الأنبياء، وقد أُكمل بتنصيب أمير المؤمنين عليه السلام بعد حجّة الوداع مضافاً إلي أن جملة الآيات والأدلّة القائمة علي إمامة أهل البيت عليهم السلام دالّة علي أن

إمامتهم وولايتهم من أصول الدين تتلو أصل النبوّة، سيما وأن الأنبياء مخاطبون بآيات الولاية والقربي والمودّة عند رجوعهم للنصرة، فهم مأمورون بطاعة أولي الأمر والمودّة للقربي والتوجّه بهم إلي اللَّه تعالي.

والحاصل: إنه لم يبعث نبيّ من الأنبياء إلّابعد أن آمن وسلّم بالدين الذي هو ولاية النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته، فالولاية دين اللَّه الذي بتسليمه استحقّ الأنبياء مقام النبوّة كلّ بحسب ما بلغه من درجة التسليم، فإن للولاية والتسليم درجات

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 203

وبحسب درجة التسليم لكلّ نبيّ يعطي ذلك النبيّ مقام الحظوة عند اللَّه تعالي ويستحقّ مقام النبوّة، وإذا ازدادت درجة التسليم كان ذلك النبيّ من أولي العزم، فتفضيل الأنبياء الوارد في قوله تعالي: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَي بَعْضٍ» «1»

، كذلك تفضيل الرسل، كما في قوله تعالي: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ» «2»

، كلّ ذلك التفضيل بحسب درجة التسليم والتولّي لدين اللَّه عزّ وجلّ، وذلك بالولاية للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته، فالتسليم للنبيّ وأهل بيته والإيمان بولايتهم نوع توجّه قلبي إلي اللَّه عزّ وجلّ بهم، وهو شرط لنيل المقامات العظيمة عند اللَّه تعالي كالنبوّة والرسالة، فضلًا عن غيرها من العبادات وقبول التوبة واستدرار الأرزاق الإلهيّة.

3- لقد بيّن اللَّه عزّ وجلّ حقيقة الميثاق الذي أخذه علي الأنبياء وكيفية إقرارهم وإيمانهم به وثباتهم عليه، كما في قصة آدم عليه السلام، حيث جاء فيها أن الأمانة والميثاق الذي أقرّ به آدم وتحمّله لنيل منصب الخلافة الإلهية عبارة عن الأسماء الحيّة العاقلة الشاعرة، التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وليست هي من السماوات والأرض، بل هي ملكوتها وباطنها ومحيطة بها ومهيمنة عليها،

والأسماء هم الرسول صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، كما تقدّم في الأبحاث السابقة كما نصّت عليه روايات الفريقين، وعليه فيكون الميثاق الذي تحمّله آدم وآمن به ونال بواسطته مقام الخلافة هو الولاية للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل البيت عليهم السلام.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 204

كذلك الحال في الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام، فلما أتمّهن نال مقام الإمامة، فهذه الكلمات هي ميثاق إبراهيم عليه السلام لما أتمّها وآمن بها وأسلم بواسطتها للَّه ربّ العالمين استحقّ مقام الإمامة الإلهية، وسبق أيضاً أن تلك الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم وكان إتمامها سبباً لنيل المقامات العالية هم محمّد صلي الله عليه و آله وآله الطاهرين عليهم السلام.

إذن الميثاق عبارة عن أمتحان وابتلاء لنيل المقامات الرفيعة كالنبوّة والإمامة، والميثاق هو ولاية أهل البيت الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

نعم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أعلي مقاماً من أهل بيته عليهم السلام وهم يتوجّهون بالنبيّ صلي الله عليه و آله إلي اللَّه عزّ وجلّ وبشفاعته ينالون درجة مقامه عند اللَّه.

4- إن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام ذكرت تلو ولاية النبيّ الأكرم في جملة من آيات الطاعة والولاية، التي تقدم ذكرها، مما يدلّل علي أن ولاية المعصومين عليهم السلام من الدين الذي بعث به الأنبياء، إذ الدين دائرته موحّدة بين الأنبياء، والذي هو عبارة عن أصول العقائد وأصول الواجبات والمحرّمات، التي هي أركان الفروع كأصل وجوب الصلاة والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه كلّها من دائرة الدين لا الشريعة المختلفة من نبيّ إلي آخر، وولاية أمير المؤمنين عليه السلام من الدين الذي بعث به جميع الأنبياء

والرسل.

كذلك من الآيات التي قرنت الرسول الأكرم بأهل بيته عليهم السلام آيات الفي ء والخمس، كما في قوله تعالي: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» «1»

فإن الآية المباركة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 205

تبيّن أن أولياء الخمس الذين لهم الولاية علي اقتصاد الدولة الإسلامية هم اللَّه تعالي ورسوله وذوي القربي، بقرينة الاشتراك ب (اللام) الدالّة علي ملكية التصرف في أموال الدولة الإسلامية، وأما اليتامي والمساكين وابن السبيل فهم موارد مصرف الخمس؛ ولذا تغيّر التعبير فيهم بحذف اللام.

كذلك بنفس البيان ما ورد في قوله تعالي: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ» «1»

، فلإقامة العدالة المالية والاقتصادية علي الأرض لابدّ أن تدار الأموال العامة التي ترجع إلي بلاد الإسلام بولاية اللَّه ورسوله وذوي القربي، وهم قربي الرسول الأكرم الذين جعلت مودّتهم أجراً وعدلًا لما جاء به النبيّ الأكرم من الدين الحنيف، وذلك في قوله تعالي: «قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «2».

وهذا يكشف عن أهميّة تولّي ذوي القربي وأن ولايتهم مفتاح لسائر أبواب الدين ومن دون التوسّل بها يخطأ الشخص ويضلّ طريق التوحيد، فيقع في مثل الجبر أو التفويض أو غير ذلك، فلابدّ من الولوج إلي الدين عن الطريق والباب الذي نصبه اللَّه عزّ وجلّ لخلقه، ولا يمكن الوقوف علي حقيقة الدين إلّا بالإمامة.

فمودّة ذوي القربي أمر عظيم إذا سَلِم سَلِمت بقيّة أصول الدين، ولا يوجد قربي للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله بهذا الشأن الخطير سوي المعصومين من أهل بيته،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 206

فولايتهم عاصمة عن الضلال وهي ركن ركين

في الدين الذي بعث به الأنبياء كافّة.

ولا شك أن الدين عام- كما ستأتي الإشارة إلي ذلك- لا يستثني منه أحد في جميع النشآت بنحو الأبد وعدم الانقطاع، ومن ثمّ يكون وجوب الطاعة والولاية مكلَّف به جميع المخلوقات بنحو من التأبيد والخلود، فخلافة وولاية أولي الأمر ووجوب طاعتهم لا تختصّ بالجنّ أو الإنس ولا بالأمور السياسية الدنيوية وليس لأمدها حدّ ولا انقطاع.

وهناك أيضاً آيات أخري ستأتي لاحقاً قرنت بين النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته، مما يكشف عن أن مقامات الأنبياء ونيل الحظوة الإلهية لا يتم إلّابالتوسل والتوجّه بهم إلي اللَّه تعالي، وأن تولّيهم واسطة للفيض الإلهي، ولولاهم لما بعث الأنبياء والمرسلون، فهم الوسيلة إلي اللَّه تعالي في عظائم الأمور، فكيف بالقضايا الأخري التي هي أقلّ شأناً مما يرتبط بالأمور الحياتية والمعيشية للناس؟!

وهذا كلّه يصلح بياناً بذاته لتبعية الأنبياء جميعاً لخاتم الأنبياء وأهل بيته عليهم السلام مع سبقهم الزمني عليهم.

بيان آخر لتوسل الأنبياء بالرسول الأكرم وأهل بيته في نيل المقامات: النبي وأهل بيته قدوة للأنبياء: … ص: 206

مما يشير إلي كون النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام قدوة لجميع الأنبياء والمرسلين حتّي أولي العزم منهم، وبالتالي اتّباعهم للنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام وسيلة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 207

لبلوغهم إلي المقامات العالية من النبوّة والرسالة والخلّة والإمامة وغيرها، مع أن النبيّ وأهل بيته متأخرين عنهم من حيث الزمان في النشأة الأرضية، هو ما دلّت عليه جملة من الآيات والروايات من أن اللَّه تعالي أنبأ آدم ونوح وإبراهيم وموسي وعيسي وغيرهم من الأنبياء والرسل بالأحوال والحوادث التي تجري علي خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، من المحن والمصائب والابتلاءات والامتحانات والشدائد وكيفية ثباتهم عليهم السلام فيها وصبرهم ورضاهم وتسليمهم

بقضاء اللَّه وقدره وتنمّرهم في ذات اللَّه، وأطلعهم علي الكمالات والمقامات الرفيعة التي يكونون عليها، مع عظيم ابتلائهم بتلك الشدائد.

وهذا ما يوجب تربية روحية عالية لهم ليتحلّوا بالكمالات عند مواجهتهم للشدائد والفتن والمحن وبالتالي نيل المقامات التي حظوا بها عند اللَّه تعالي.

وكان فيما أوحي اللَّه عزّ وجلّ لهم عن أحوال النبيّ وأهل بيته بأنماط متعدّدة من الوحي، أي من الوحي الصوري نظير الرؤيا أو الوحي بالإلهام والمعني وغيرها من أنماط الوحي.

فكانت سيرة النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام تمثالًا منصوباً وشعاراً مرفوعاً لهم يحتذون ويقتدون به، ماثل أمام أعينهم طيلة مسيرة أيام نبوّتهم ورسالتهم.

وهذا أحد معاني اقتداء الأنبياء والمرسلين بالنبيّ وأهل بيته.

أما الآيات التي تشير إلي هذا المعني فهي عديدة نشير إلي جانب منها:

1- ما تقدّم من قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» «1»

فإنها دالّة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 208

علي أن اللَّه عزّ وجلّ أخبرهم عن خاتم الأنبياء ومقاماته وأن الدين دينه وهو فاتح حصونه، ثم بعد ذلك أمرهم بالتسليم له والإيمان به ونصرته.

2- قوله تعالي علي لسان عيسي عليه السلام: «وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» «1».

3- قوله تعالي في يهود المدينة، قُبيل ولادة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَي الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَي الْكَافِرِينَ» «2»

، فقد نقل المفسّرون في ذيل هذه الآية المباركة أن اليهود من أهل المدينة وخيبر كانوا إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من الأوس والخزرج يستنصرون بالنبيّ

صلي الله عليه و آله عليهم ويستفتحون به، لما يجدون من ذكره وصفاته وشمائله ومحلّ ولادته في التوراة، وكانوا يدعون ويتوسلون بحقّه للنصرة عليهم، حيث يقولون: (اللّهم إنّا نستنصرك بحقّ النبيّ الأميّ إلّانصرتنا عليهم).

وعن ابن عباس قال: (كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلّما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: اللّهم إنا نسألك بحقّ محمّد النبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلّانصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بُعث النبيّ صلي الله عليه و آله كفروا به، فأنزل اللَّه وقد كانوا يستفتحون بك يامحمّد علي الكافرين) «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 209

4- قوله تعالي في اليهود والنصاري الذين آمنوا بالنبيّ صلي الله عليه و آله: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1». 5- قوله تعالي في معرفة أهل الكتاب بصفات وشمائل النبيّ صلي الله عليه و آله: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» «2».

إن هذه الأربع آيات الأخيرة صريحة في إخبار الأنبياء عليهم السلام أممهم بأحوال خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله وسيرته، وهذا يكشف عن أن اللَّه تعالي أطلع أنبياءه علي سيرة النبيّ الأعظم وما يجري عليه من المحن والشدائد.

6- قوله تعالي علي لسان إبراهيم في دعائه لذريّته:

«فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «3»

فهي دالّة علي أن إبراهيم كان مطّلعاً علي سيرة ذرّيته الطاهرة، ودعا اللَّه عزّ وجلّ بمودّة

الناس لهم وهويّ القلوب إليهم.

هذا بالنسبة إلي الآيات المباركة، وهي دالّة علي أن الأنبياء عليهم السلام كانوا علي اطّلاع بالنبيّ الأكرم وأهل بيته الطاهرين وما يجري عليهم من البلايا.

أما الروايات في هذا المجال فهي كثيرة جدّاً نشير إلي شطر منها علي سبيل الاختصار:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 210

1- ما أخرجه القندوزي الحنفي في الينابيع، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «ياعباد اللَّه إن آدم عليه السلام لما رأي النور ساطعاً من صلبه، إذ كان اللَّه تعالي نقل أشباحنا من ذروة العرش إلي ظهره، رأي النور ولم يتبيّن الأشباح، فقال: ياربّ ما هذه الأنوار؟ قال: أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع العرش إلي ظهرك، ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك، إذ كنت وعاءً لتلك الأشباح، فقال آدم عليه السلام: ياربّ لو بيّنتها لي.

فقال اللَّه عزّ وجلّ: انظر ياآدم إلي ذروة العرش.

فنظر آدم عليه السلام ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم عليه السلام إلي ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الانسان في المرآة الصافية، فرأي أشباحنا.

فقال: ما هذه الأشباح ياربّ؟

قال اللَّه تعالي: ياآدم هذه الأشباح أشباح أفضل خلائقي وبريّاتي، هذا محمّد وأنا المحمود في أفعالي، شققت له اسماً من اسمي، وهذا علي وأنا العليّ العظيم شققت له اسماً من اسمي، وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل القضاء، وفاطم أوليائي مما يبيرهم ويشينهم، شققت لها اسماً من اسمي، وهذا الحسن وهذا الحسين وأنا المحسن المجمل ومنّي الاحسان، شققت اسميهما من اسمي.

وهؤلاء خيار خلقي وكرائم بريّتي، بهم آخذ وبهم أعطي، وبهم أعاقب وبهم أثيب، فتوسل بهم إليّ ياآدم، وإذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعائك فإني آليت

الامامة

الالهية(5)، ج 4، ص: 211

علي نفسي قسماً حقّاً لا أُخيّب لهم آملًا ولا أردّ لهم سائلًا» «1».

فهذه الرواية صريحة في أن اللَّه تعالي أطلع خليفته ونبيّه آدم علي حقائق أهل البيت عليهم السلام، ليكونوا له قدوة يقتدي بهم وشفعاء يتوسل بهم إلي اللَّه تعالي.

2- روي: أن آدم عليه السلام لما هبط إلي الأرض لم يرَ حواء، فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرّ بكربلاء فاغتمّ وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الذي قُتل فيه الحسين عليه السلام حتي سال الدمّ من رجله، فرفع رأسه إلي السماء وقال:

إلهي هل حدث منّي ذنب آخر فعاقبتني به؟ فإني طفت جميع الأرض وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض.

فأوحي اللَّه تعالي إليه ياآدم ما حدث منك ذنب، ولكن يقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلماً، فسال دمك موافقة لدمه «2».

3- ما أخرجه المجلسي في البحار عن صاحب الدرّ الثمين في تفسير قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ» «3»

: (أنه رأي ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمة عليهم السلام، فلقّنه جبرئيل، قل: ياحميد بحقّ محمّد، ياعالي بحقّ عليّ يافاطر بحقّ فاطمة، يامحسن بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان.

فلمّا ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: ياأخي جبرئيل في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي؟ قال: جبرئيل: ولدك هذا يصاب بمصيبة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 212

تصغر عندها المصائب، فقال: ياأخي وما هي؟ قال: يقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً ليس له ناصر ولا معين) «1».

4- ما أخرجه الصدوق عن عليّ بن موسي الرضا عليه السلام، قال: «لما أمر اللَّه تبارك وتعالي إبراهيم عليه السلام أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه تمنّي إبراهيم عليه السلام أن يكون يذبح ابنه إسماعيل

عليه السلام بيده، وأنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه؛ ليرجع إلي قلبه ما يرجع إلي قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده بيده فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب علي المصائب، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إليه: ياإبراهيم من أحبّ خلقي إليك؟ فقال: ياربّ ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ من حبيبك محمّد صلي الله عليه و آله، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إليه: ياإبراهيم أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟

قال: بل هو أحبّ إليّ من نفسي، قال: فولده أحبّ إليك أو ولدك؟ قال: بل ولده، قال: فذبح ولده ظلماً علي أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: ياربّ بل ذبحه علي أيدي أعدائه أوجع لقلبي، قال: ياإبراهيم فإن طائفة تزعم إنها من أمة محمّد صلي الله عليه و آله ستقتل الحسين عليه السلام إبنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يذبح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي، فجزع إبراهيم عليه السلام لذلك وتوجّع قلبه وأقبل يبكي، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إليه: ياإبراهيم قد فديت جزعك علي إبنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك علي الحسين عليه السلام وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب علي المصائب» «2».

5- ما أخرجه ابن قولويه في كامل الزيارات عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 213

إسماعيل الذي قال اللَّه تعالي في كتابه: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا» «1»

لم يكن إسماعيل ابن إبراهيم عليه السلام، بل كان نبيّاً من الأنبياء بعثه اللَّه إلي قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه ملك عن اللَّه تبارك وتعالي فقال: إن اللَّه بعثني إليك فمرني بما شئت، فقال: لي أسوة بما يصنع بالحسين عليه السلام» «2».

وفي حديث آخر

عنه عليه السلام قال: «ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ عليه السلام، بعثه اللَّه إلي قومه فكذّبوه فقتلوه وسلخوا وجهه، فغضب اللَّه له عليهم فوجّه إليه اسطاطائيل ملك العذاب، فقال له: ياإسماعيل: أنا اسطاطائيل ملك العذاب، وجّهني إليك ربّ العزّة لأعذّب قومك بأنواع العذاب إن شئت، فقال له إسماعيل:

لا حاجة لي في ذلك، فأوحي اللَّه إليه فما حاجتك ياإسماعيل؟ فقال: ياربّ إنك أخذت الميثاق لنفسك بالربوبية ولمحمّد صلي الله عليه و آله بالنبوّة ولأوصيائه بالولاية، وأخبرت خير خلقك بما تفعل أمته بالحسين بن عليّ عليه السلام من بعد نبيّها، وأنك وعدت الحسين عليه السلام أن تكرَّهُ إلي الدنيا حتي ينتقم بنفسه ممن فعل ذلك به، فحاجتي إليك ياربّي أن تكرّني إلي الدنيا حتّي أنتقم ممن فعل ذلك بي، كما تكرّ الحسين عليه السلام، فوعد اللَّه إسماعيل بن حزقيل ذلك، فهو يكرّ مع الحسين عليه السلام» «3».

6- عن سعد بن عبداللَّه القمي في سؤاله للإمام المهدي عليه السلام في محضر الإمام الحسن العسكري عليه السلام، حيث قال: فأخبرني ياابن رسول اللَّه عن تأويل «كهيعص»؟ قال عليه السلام: «هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع اللَّه عليها عبده زكريّا، ثم قصّها علي محمّد صلي الله عليه و آله، وذلك إن زكريا سأل ربّه أن يعلّمه أسماء

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 214

الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إياها، فكان زكريا إذا ذكر محمّداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين، سري عنه همّه، وانجلي كربه، وإذا ذكر الحسين خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة «1»، فقال ذات يوم: ياإلهي ما بالي إذا ذكرت أربعاً منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه اللَّه تعالي عن قصّته» إلي أن قال: «فلما سمع

ذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيها الناس من الدخول عليه، وأقبل علي البكاء والنحيب، وكانت ندبته: إلهي أتفجع خير خلقك بولده؟

إلهي أتنزل بلوي هذه الرزية بفنائه؟ إلهي أتلبس علياً وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي أتحلّ كربة هذه الفجيعة بساحتهما؟

ثم كان يقول: أللّهم ارزقني ولداً تقرّ به عيني علي الكبر، واجعله وارثاً وصيّاً، واجعل محلّه منّي محلّ الحسين، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه ثم افجعني به كما تفجع محمّداً حبيبك بولده، فرزقه اللَّه يحيي وفجعه به» «2».

والروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً، وهي دالّة علي ما أردنا التنبيه عليه من تبعية الأنبياء لمحمّد وأهل بيته عليهم السلام، وكونهم قدوة لهم وواسطة في بلوغ ما وصلوا إليه من المقامات، وذلك عن طريق استعراض سيرتهم والحوادث التي جرت عليهم عليهم السلام.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 215

آيات أخري في اقتران أهل البيت عليهم السلام بالنبيّ صلي الله عليه و آله في الصفات: … ص: 215

1- قوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «1»

، حيث قرنت هذه الآية المباركة بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أهل بيته عليهم السلام وجعلتهم شركاء له تابعون في الطهارة، وهي تعني درجة العصمة التي للرسول صلي الله عليه و آله، فهو صلي الله عليه و آله سيّد الأنبياء ويفوق الكلّ في درجة العصمة والطهارة، إلّا أن سنخ عصمته صلي الله عليه و آله متقاربة ومتقارنة مع سنخ العصمة التي لأهل البيت عليهم السلام، ففي الوقت الذي قرن اللَّه تعالي بنبيّه صلي الله عليه و آله أهل بيته في العصمة والطهارة، لم يقرن أحداً من الأنبياء في نمط التطهير والعصمة الذي له صلي الله عليه و آله.

2- قوله تعالي: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ

وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَي الْكَاذِبِينَ» «2»

، فلم يُنزَّل أحد كنفس النبيّ صلي الله عليه و آله إلّاعليّ عليه السلام، وقرن اللَّه تعالي بالنبيّ صلي الله عليه و آله أهل بيته عليهم السلام في الحجّية، فالخمسة عليهم السلام معاً حجج علي جميع الأديان السماوية والبشرية عموماً إلي يوم القيامة، فهم عليهم السلام شركاء النبيّ صلي الله عليه و آله في الرسالة؛ لأن المباهلة نوع محالفة، وفي الحلف لابدّ أن يحلف الأصيل ولا وكالة في الحلف، وهذا يعني أنهم عليهم السلام شركاء في الرسالة أصالة، ولكنهم تابعون في ذلك للنبيّ صلي الله عليه و آله وهو سيّدهم وبشفاعته نالوا الأصالة في الحجّية.

والحاصل: إن أهل البيت عليهم السلام مقرونون بسيّد الأنبياء في المقامات تبعاً له صلي الله عليه و آله، وهذا يعني أن الإيمان بأهل البيت والتولّي لهم من الدين الذي أخذ علي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 216

الأنبياء الإيمان به ونصرته لأجل نيل المقامات العالية عند اللَّه تعالي.

هذا تمام الكلام في الدليل السابع علي عموم شرطية التوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام لصحّة الإيمان وللتوبة وسائر العبادات ولنيل مقامات القرب.

الدليل الثامن: … ص: 216

«فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «1».

تقدّم أن هذه الآية المباركة دالّة علي مبدأ التوسّل، ونشير هنا أيضاً إلي أنها دالّة عموم شرطية التوسّل في التوجّه إلي الحضرة الإلهية، فلابدّ من التوسّل بالذريّة والتوجّه بهم وصلتهم والمجي ء إليهم، وسبق كذلك أن التوجّه نوع دعاء وهو لا يرتفع ولا تفتّح له أبواب السماء إلّابالتوسل بالنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام وهويّ القلوب إليهم.

ولذا كانت مودّة أهل البيت عليهم السلام أجر الرسالة الخاتمة، كما في قوله تعالي:

«قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ

عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «2»

، وقال تعالي: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» «3»

، مما يعني أن مودّة أهل البيت عليهم السلام يعود نفعها للأمة جمعاء، وقال عزّ وجلّ: «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلًا» «4»

، ومعني ذلك أن مودّتهم عليهم السلام هي السبيل الوحيد والطريق والوسيلة المنحصرة إلي اللَّه تعالي، فهم السبيل إليه والمسلك إلي رضوانه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 217

الدليل التاسع: الاستكبار والصدّ عن آيات اللَّه تعالي موجب لحبط الأعمال … ص: 217

نريد أن نتعرض هنا في الاستدلال علي المقام بما تقدّم من قوله عزّ وجلّ:

«إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمجْرِمِينَ» «1»

ونريد أن نضيف علي ما تقدم من بيان هذه الآية الكريمة بما له دلالة علي المطلوب في المقام، وذلك بالبيان التالي:

إن الآية المباركة تتعرّض لبعض الأحكام المترتّبة علي التكذيب بآيات اللَّه تعالي.

والمقصود من الآيات هي الحجج الإلهية، حيث أطلق اللَّه عزّ وجلّ لفظ الآية علي مريم وعيسي عليهما السلام «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «2»

، وإذا كان عيسي عليه السلام لم ينل ما ناله إلّابولايته وإقراره وإيمانه بسيّد الأنبياء فكيف بنفس النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، فهو أعظم آية للَّه تعالي؟ وإذا كان عيسي عليه السلام من وزراء الإمام المهدي عليه السلام وتابعاً له في دولته، فكيف لا يكون أهل البيت عليهم السلام من أعظم آيات اللَّه تعالي؟ خصوصاً وأن اللَّه تعالي قرن بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أهل بيته عليهم السلام في الطهارة والعصمة والحجّية والولاية وغيرها من المقامات التي تقدّم التعرّض لها آنفاً، فلا شك أن النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله

وأهل بيته عليهم السلام المصداق البارز للآية التي نحن بصدد بيانها، فهم عليهم السلام أوضح وأبرز وأعظم آيات اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 218

والذين يكذّبون بآيات اللَّه تعالي ويصدّون ويستكبرون عنها- كما فعل إبليس مع آدم عليه السلام- لا تفتّح لهم أبواب السماء، فلكي تفتّح أبواب السماء لقبول الأعمال والعبادات والعقائد وجميع المقامات، وقد قال تعالي: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» «1»

والكلم الطيب هو العقيدة، فبيّنت الآية أن الإيمان والعقيدة لابدّ له أن يصعد في مسير قبوله عند اللَّه تعالي، والصعود إلي السماء لابدّ أن تفتّح له أبواب السماء، وقد بيّنت الآية السابقة أن مفتاح أبواب السماء هو كلّ من التصديق بالآيات الإلهية والخضوع لها واللُجأ إليها وعدم الصدّ عنها، ومن أجل الرقي والعروج إلي السماء لابدّ من التوجّه إلي آيات اللَّه تعالي واللجوء إليها والتصديق بها وعدم الصدّ عنها، فالآية صريحة في أن التوبة والعبادة وأيّ قربي أو زلفي إلي اللَّه عزّ وجلّ تفتقر إلي تفتّح أبواب السماء وأنها لا تفتّح أبداً مع الاستكبار علي الآيات الإلهية، فليس الإيمان بآيات اللَّه فحسب كافٍ في قبول العبادات ورقي المقامات، بل لابدّ من المودّة والصلة والإقبال والتوجّه إلي الآيات والتوسّل بها إلي اللَّه، وعدم الصدّ والإعراض والإستكبار عنها، لأن الآية جعلت شرطين لفتح أبواب السماء ولدخول الجنّة:

الأول: عدم التكذيب، أي التصديق والإيمان والمعرفة بآيات اللَّه الحجج.

والثاني: عدم الاستكبار عنها، وهذا الأمر يتضمّن شيئين:

أحدهما: عدم الاستكبار أي الخضوع والتواضع، وثانيتهما: عدم الصدّ الذي قد ضُمّن في فعل الاستكبار بقرنية عن، نظير ما ذكرته الآيات في مسبب كفر إبليس (أبي واستكبر) فالإباء هو الجحود مقابل التصديق، والاستكبار مقابل

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 219

الخضوع والاتباع.

ونظير ذلك ما ورد

في سورة المنافقين في قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» «1»

وهذه الآية الكريمة صريحة في أن الاستغفار وقبول التوبة متوقّف علي المجي ء إلي النبيّ صلي الله عليه و آله، وأن صفة المنافق الصدّ عن الآيات الإلهية والاستكبار عليها والابتعاد عنها وعدم اللجوء واللواذ إليها، وهذا نوع من التشاهد بين الآيات القرآنية، فالآية تدلّ علي أن الأوبة إلي اللَّه تعالي والقرب إليه لابدّ فيه من التوجّه أوّلًا إلي الحضرة النبوّية والتوسّل والاستشفاع بالنبي صلي الله عليه و آله ثم شفاعته.

فالتوسّل خيار حصري لابدّي شرطي منحصر بالمجي ء واللجوء إلي الحضرة النبويّة واللّواذ بها والاستغاثة به صلي الله عليه و آله، ثم إبداء التوبة والاستغفار وإمضاء النبيّ صلي الله عليه و آله له باستغفاره وشفاعته لهم من أجل تحقّق التوبة ومقام المغفرة وقبول العبادة التي منها عبادة التوبة.

ونظير هذه الآيات أيضاً قوله تعالي: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» «2».

ومن الشواهد أيضاً علي أن المراد من الآيات هنا هم الأنبياء والخلفاء الأوصياء الحجج هو التعبير ب (كذّبوا) فإنه مقابل التصديق فيما يزعمون من مناصب وفيما لهم من دعوي، وأما الآية الكونية فليس فيها تكذيب أو تصديق، بل إنما يقع الغفلة والإعراض عنها؛ إذ لا يوجد فيها زعم أو دعوي معيّنة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 220

كي يصدق في حقّها التصديق أو التكذيب، فالتصديق أو التكذيب إنما يكون للحجج الإلهية التي تدّعي مقاماً إلهياً وكذا فيما تبلّغه عن اللَّه تعالي، فالمراد بالآية والآيات في المقام الحجج الإلهية من الأنبياء والرسل والأصفياء والأوصياء، الذين أُسندت إليهم المقامات الإلهية.

والحاصل: إن هذه الآيات المباركة تبيّن أن مفتاح أبواب سماء

الحضرة الربوبية الإقرار بالحجج والآيات والتوجّه إليها والتوسّل والتشبّث بها والإنقطاع إليها لا عنها، وأبرز وأعظم تلك الآيات النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، فهم مفاتيح أبواب السماء في قبول وصعود التوبة والعبادة والمعرفة والإيمان والعقيدة ونيل المقامات، فلا ترتفع أي عبادة ولا ينال مقام ولا تتحقّق التوبة مع عدم التصديق بالآيات وصلتها ومودّتها والتوجّه إليها والتوسّل بها، والإعراض عنها يوجب حبط الأعمال وامتناع دخولهم الجنّة في الآخرة «ولا يدخلون الجنة حتي يلج الجمل في سمّ الخياط» «أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»، فشرط النجاة يوم القيامة الارتباط بالآيات الإلهيّة والإنتماء إليها والتوسّل بها، لكونها قنوات غيبيّة توجب القرب إلي اللَّه تعالي.

فالتوسل شرط في تفتّح الأبواب لقبول وصحّة الإيمان والتوبة وقبول الأعمال وسائر المقامات.

الدليل العاشر: خضوع الملائكة لآدم عليه السلام كلّ خليفة اللَّه الباب الأعظم لملائكته … ص: 220
اشارة

لقد سبق ذكر الآيات التي تعرّضت لقصة آدم عليه السلام وأمر الملائكة كلّهم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 221

أجمعين بالسجود له، وقلنا إن الأمر بسجود الملائكة وخضوعهم وانقيادهم ليس خاصّاً بآدم عليه السلام، لأنها معادلة دائمة في عالم الخلقة لكلّ من يتحلّي بمقام الخلافة الإلهية، فمن يتحلّي بهذا المقام يطوع اللَّه عزّ وجلّ له الملائكة ويدينون بأجمعهم للَّه تعالي بطاعته بما فيهم كبار الملائكة المقرّبين، وهم في كلّ ما يقومون به من أدوار عظيمة في عالم الإمكان والكون خاضعون لوليّ اللَّه، وهو خضوع حقيقي قائم علي أساس العلوّ الرتبيّ التكويني لخليفة اللَّه تعالي، وحينئذٍ يكون الأمر بالسجود والخضوع للخليفة شامل للأنبياء، وخصوصاً أولي العزم منهم كنوح وإبراهيم وموسي وعيسي والرسول الأكرم وأوصيائه عليهم السلام، فالملائكة المقرّبين وغيرهم بابهم إلي اللَّه تعالي خليفة اللَّه الذي يُنبئهم بالأسماء والمقامات.

ثمّ إن الآيات والروايات ذكرت أن الملائكة عندما اعترضت علي جعل خليفة اللَّه في

الأرض وهو من ترك الأولي الناشئ من ضيق الأفق وعدم سعة العلم- آبت وتابت إلي اللَّه عزّ وجلّ بالسجود لآدم عليه السلام.

إذن سنّة اللَّه للملائكة كدين هو الإقبال علي وليّ اللَّه، وهو شرط أوبتهم وقبول عبادتهم وحظوتهم بالمقامات العالية.

ففي عالم الغيب الذي هو خال عن نشأة التشريع الأرضي، وليس خالٍ عن الدين الإلهي، كما قال تعالي: «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «1»

، افتقرت الملائكة إلي أن يكون بينهم وبين اللَّه تعالي واسطة في الخضوع والإنباء والمعرفة والعبادة والتقرّب إلي اللَّه تعالي، فما بالك بالنشآت الأخري؟!

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 222

وإذا كان آدم أبو البشر نبيّ الملائكة وقناة الإنباء والفيوضات العلمية وغيرها عليهم من اللَّه تعالي، وهو وليّهم وهم طائعون له لا يتمرّدون عليه ولا ينبغي لهم ذلك، فكيف بسيّد البشر؟! ألا تكون الملائكة منقادة وطائعة له؟!

ومن هنا تكون الملائكة مشمولة بقوله تعالي: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «1»

من غير اختصاص بالنشأة الأرضيّة، وهذا لوحدة الدين وشموله لجميع المخلوقات كما سيأتي لاحقاً بيانه.

فالخليفة نبيّ الملائكة وله مقام إنبائهم وتعليمهم؛ لأنه مزوّد بالعلم اللّدني الأسمائي، فهو نبيّ المعارف وإن لم يكن نبيّ شريعة للناس في الأرض.

والحاصل: إن المقامات التكوينيّة العالية للملائكة لا يمكن أن تنال إلّابطاعة وليّ اللَّه والإقبال عليه والتوجّه إليه وبه إلي اللَّه تعالي.

أخذ ميثاق ولاية أهل البيت عليهم السلام معرفة وتوسّلًا في جميع النشآت علي أصناف المخلوقات: … ص: 222

الدين الذي هو عند اللَّه الإسلام لا يختصّ بنشأة من النشآت، بل الكلّ مكلّف بالطاعة للَّه والإسلام له في أصول معالم دينه، قال تعالي: «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» «2»

، ولذا كان الأمر بالسجود لآدم غير خاصّ بالملائكة، بل شامل لكل النشآت ومن هنا عمّ الأمر إبليس، لأن دين اللَّه عزّ

وجلّ وهو التسليم دين جميع المخلوقات،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 223

فالملائكة أيضاً مأمورة بالتوحيد للَّه تعالي وطاعة وليّ اللَّه بالسجود له، وعلي هذا فكلّ ما يبيّن في النصوص القرآنية بأنه من أركان الدين فقد أخذ علي جميع الملائكة الإيمان به، ومن تلك الأركان تولّي خليفة اللَّه والطاعة له.

وإذا عرفت ذلك يتّضح لك ما ورد في الروايات من أن ولاية النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام أُخذت من جميع الملائكة وسائر الكائنات، وذلك لكونها من الدين غير الخاص بنشأة من النشآت.

إذن فنبوّة خاتم الأنبياء وولاية سيّد الأوصياء لا تختصّ بالموجودات الأرضية، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة لم تؤخذ علي أهل هذه الدنيا فحسب، لأن الإنباء ونيل الفيوضات عموماً يحتاج إلي وجود خليفة اللَّه ولابدّ من التوجّه إليه لنيل المقامات وقبول الطاعات في جميع النشآت؛ لأنه واسطة اللَّه وسفيره بينه وبين خلقه في كلّ المقامات العلمية والتكوينية.

تأبيد رسالة الرسول صلي الله عليه و آله ووساطته في الوحي الإلهي لجميع النشآت: … ص: 223

فمفاد الشهادةالثانية والثالثة إقرار بالواسطة الأبدية غيرالخاصة بالنشأة الأرضية، وهذه هي تداعيات ومقتضيات الشهادة الثانية والثالثة، التي لا يتمّ التوحيد بدونها، ومن دونها لا يتحقّق قرب المخلوق إلي ربّه، ذلك المخلوق البعيد عن مقامات الربوبية وعظمة الصفات الإلهية.

جحود التوسّل سنّة إبليس في الاستكبار: … ص: 223

ومن يأبي ذلك يحصل له العتوّ والاستكبار في نفسه والتعظيم لها، مع أن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 224

نفسه صغيرة فقيرة بعيدة عن ساحة عظمة الصفات الإلهية، فهي أي النفس- محتاجة إلي الواسطة والسفارة التي يتوجّه بها إلي اللَّه تعالي، كما في قوله تعالي:

«قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَي يَوْمِ الدِّينِ» «1».

ويتّضح أيضاً أن معطيات الشهادة الثانية والثالثة ومؤداهما مرتبطة بالمعارف الدينيّة الأبديّة الشاملة للملائكة والجنّ والإنس والبرزخ والجنّة والنار والآخرة، فضلًا عن النشأة الأرضية، كذلك الوساطة والشهادة الثانية والثالثة شاملة لعالم العقول والأرواح، ولذا نجد أن مجري الفيض في تكامل عقول علماء هذه الأمة ومستوياتها العلميّة في الدين هو النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، حيث تمّ بجهودهم المباركة تشييد المعارف الصحيحة ورفض الجبر والتفويض والتجسيم والتشبيه والتعطيل وغيرها من العقائد الفاسدة، فهم عليهم السلام وسائط الفيض وسفراء الأرواح والعقول.

وهذا بيان عقلي لمعطيات الشهادة الثانية والشهادة الثالثة يُضاف إلي البيانات السابقة المعتمدة علي الآيات القرآنية المباركة.

والحاصل: إن شرطية التوسّل في المقامات الثلاث المذكورة تعمّ جميع الأنبياء والرسل وكلّ المخلوقات من الملائكة وغيرها.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 226

الفصل الرابع/ شبهات وردود … ص: 226

اشارة

الشبهة الأولي: التوسّل عبادة لغير اللَّه تعالي.

الشبهة الثانية: التوسّل مناف لكلمة التوحيد.

الشبهة الثالثة: التوسّل مناف للآيات القرآنية

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هي الوسيلة.

الشبهة الخامسة: التوحيد الإبراهيمي يأبي التوسّل بغير اللَّه.

الشبهة السادسة: التوسّل يعني التفويض وعجز اللَّه تعالي.

الشبهة السابعة: إيجاد المخلوقات الامكانية كلّه ابداعيّ بلا واسطة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 227

شبهات وردود … ص: 227

قبل الدخول في بيان الشبهات والأجوبة التفصيلية عنها لابدّ من التنبيه علي نقطة جديرة بالإلتفات، وهي إننا لا نخطّئ قول أصحاب الشبهة في تأثير التوسّل ومدخليته المباشرة في العقيدة التوحيدية، وذلك لأن فروع الدين الاعتقادية، بل كلّ فروع الدين ترجع في لبّها وجذرها إلي أصول الدين، فإن معني كونها من فروع الدين أنها تنحدر وتنشعب وتتنزّل من الشجرة المباركة الطيّبة لأصول الدين.

إذن فعبادة التوسّل توحيدية، بمعني أن لها عمقاً توحيدياً وجذراً تنشعب منه يربطها بأصول الدين الكلّية.

وهذا هو معني أن التوحيد لا يتمّ بكلمة (لا إله إلّااللَّه)، بل لابدّ من أدبيات ومعطيات الشهادة الثانية لكي يتمّ التوحيد.

والحاصل: إن المسألة ليست مرتبطة بصورة الفعل الذي يأتي به العبد، بل الأمر يعود إلي لبّ ذلك الفعل وجذره وهو التوحيد، ولكن بعد أن أثبتنا ضرورة التوسّل فضلًا عن مشروعيته، بل شرطيته في صحّة العقيدة والأعمال، يكون الأمر علي عكس ما ذكروه من أن التوسّل بغير اللَّه تعالي يوجب الكفر والخروج

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 228

عن العقيدة التوحيدية، بل نقول: إن ترك التوسّل والتوجّه يوجب الجحود والاستكبار والكفر والخروج عن عقيدة التوحيد.

كذلك من الجدير بالإلتفات أن ثبوت ضرورة التوسّل بآيات اللَّه وكلماته من الأنبياء والأولياء والأوصياء معناه ضرورة الإرتباط بكائن حيّ بشري يربطنا مع الحيّ القيوم، فلابدّ من استشعار ضرورة وجود نموذج بشري نرتبط به وله القدرة علي أن يكون حلقة الوصل

بين اللَّه عزّ وجلّ وبين عبيده، وليس ذلك إلّا لعظمة اللَّه تعالي وتنزّهه عن التشبيه والتجسيم والتعطيل.

وفي غير هذه الصورة تكون جميع المناسك العبادية كمناسك الحجّ عبارة عن جمادات لا حيوية فيها، وهذا يعطي استشعاراً بأننا نعظّم أحجاراً جامدة لا حيوية فيها ولا تماسّ لها باللَّه الذي لا إله إلّاهو الحيّ القيوم.

بعد هذا البيان الموجز نقول:

إن المنكرين لمشروعية التوسّل استدلّوا علي دعواهم ببعض الأدلّة، وهي بعد بيان ما هو الحقّ في المسألة وأن التوسّل ضرورة لابدّ منها تكون شبهات وتلبيسات لابدّ من الإجابة عنها، وهذه عمدتها:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 229

شبهات المنكرين لجواز التوسّل … ص: 229

الشبهة الأولي: التوسّل عبادة لغير اللَّه تعالي … ص: 229
اشارة

إن الدعاء عبارة عن النداء وطلب الحاجة، ولا شك أن الدعاء عبادة للمدعو؛ لأن الدعاء فيه نوع من التوجّه والقصد والنيّة، وهذه الأمور هي روح العبادة وقوامها، ولذا ورد في الحديث «أن الدعاء مخ العبادة وجوهرها».

وبالتالي يكون دعاء غير اللَّه تعالي وندبته وطلب الحاجة منه عبادة له، وهو من أوضح أنواع الشرك في العبادة.

ويعبّر عنه بالشرك الصريح أو الشرك الأكبر، الذي يوجب الرّدة والارتداد عن الدين والمنافاة لأوليّات الدين الاسلامي، والخروج عن المواثيق والعهود التي التزم بها الشخص بالتزامه وتشهّده الشهادتين.

مع العلم أن جميع طقوس العبادة لا تبلغ درجة الدعاء الذي هو قوام حقيقة العبودية، وهو نوع افتقار إلي الباري تعالي.

والحاصل: إن الدعاء والنداء وطلب الحوائج من غير اللَّه تعالي من أغلظ أنواع العبادة والتأليه للشخص المدعو، وهو عبارة عن الشرك الصريح أو الأكبر.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 230

الجواب عن الشبهة الأولي: … ص: 230

كان خلاصة الشبهة هو أن الدعاء والنداء وطلب الحاجة عبادة لا تجوز لغير اللَّه تعالي.

والجواب عن هذه الشبهة اتضح ضمناً سابقاً في بيان ما هو الحقّ في المسألة، وأن الدعاء بمعني النداء، والطلب إنما يكون عبادة للمدعو إذا اعتقد الداعي أن المدعو مستقل بالقدرة غني بالذات، وأما إذا اعتقد الداعي أن المدعو لا يستقل بالقدرة، بل يستمد القدرة من الباري تعالي وأن الحول والقدرة التي لديه هي من الباري تعالي وأن المدعو إنما حصل عليها لمكان حظوته وقربه عند الباري وأن الداعي إنما يدعوه نظراً لقربه ووجاهته من الباري وأن تكريم اللَّه له بالقرب والوجاهة حفاوة منه تعالي وإذن منه للاستشفاع والتوسّل والتوجّه به إليه عزّوجلّ، فإن دعاء ذلك الغير يعدّ حينئذٍ توجّهاً وقصداً إلي الحضرة الإلهية، لأن قصد القريب من الحضرة الإلهية قصد للحضرة، كما أن

الصدّ والإعراض عن القريب ابتعاد عن الحضرة الإلهية، فدعاء ذلك الغير هو دعاء للَّه بآياته العظيمة ودعاء له بأسمائه الحسني التي يظهر بها.

وينقض أيضاً علي هذه الشبهة بطلب الحيّ الحاجة من الحيّ، مثل طلب العلاج من الطبيب، وطلب البناء من البنّاء، واصلاح الزراعة من الزرّاع، فإنه لا ريب في عدم توقّف أحد من المسلمين، بل ولا من البشر عموماً في ذلك.

ولم يقل أحد أن ذلك يوجب كفراً أو زندقة أو شركاً، والحال إنه علي مقتضي كلامهم لابدّ أن يكون ذلك كفراً وشركاً؛ لأن الحدّ الذي ذكروه لبيان معني الشرك ينطبق علي نداء الحيّ للحيّ وطلب الحيّ الحاجة من الحيّ واستغاثته به، كما

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 231

في قوله تعالي: «فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ» «1»

وكذا في التوسّل والتشفّع وتوسيط الحيّ للحيّ، فإنه لم يدّع أحد أن ذلك من الشرك والكفر، مع أن حدّ الشرك الذي زعموه ينطبق عليه تماماً.

لا سيما وأن هذه المباحث من المباحث العقلية التكوينية وهي لا تقبل التخصيص، بخلاف المباحث الاعتبارية الجعلية التي قد لا تكون مطّردة في جميع المصاديق.

ثم إن أصحاب هذه المقالة حاولوا أن يجيبوا عن هذا النقض بجوابين:

الأول: إن سؤال الحيّ الحاضر بما يقدر عليه والاستعانة به في الأمور الحسّية التي يقدر عليها ليس ذلك من الشرك، بل من الأمور العادية الحياتية الجائزة بين المسلمين.

الثاني: إن الأمور العادية والأسباب الحسّية التي يقدر عليها المخلوق الحيّ الحاضر ليست من العبادة، بل تجوز بالنصّ والاجماع، بأن يستعين الإنسان بالإنسان الحيّ القادر في الأمور العادية، التي يقدر عليها كأن يستعين به أو يستغيث به في دفع شرٍ ولده أو خادمه أو كلبه، وما أشبه ذلك، وكأن يستعين الانسان بالانسان الحيّ الحاضر القادر أو الغائب بواسطة

الأسباب الحسّية، كالمكاتبة ونحوها في بناء بيته أو إصلاح سيارته أو ما أشبه ذلك، ومن ذلك الاستغاثة التي جرت لأحد بني إسرائيل عندما استغاث بموسي عليه السلام في قوله تعالي: «فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَي الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ» «2»

، وكذا استغاثه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 232

الانسان بأصحابه في الجهاد أو الحرب أو نحو ذلك، وأما الاستغاثة بالأموات والجنّ والملائكة والأشجار والأحجار فذلك من الشرك الأكبر، وهو من جنس عمل المشركين الأوّلين مع آلهتهم كاللّات والعزّي وغيرهما.

دفع الجوابين: جحود التوسّل يستند إلي التفويض … ص: 232

أما الجواب الأول: فالوهن فيه واضح؛ لأنه يقول الاستعانة بالانسان الحيّ القادر علي الأمور العادية الحسّية ليس من الشرك، وكونه حيّاً أو ميّتاً لا يؤثّر في تحقّق الغيرية مع اللَّه عزّ وجلّ، والشرك- بحسب زعمهم- قائم بالغيريّة مع اللَّه تعالي، والغيريّة لغة وعقلًا لا تختلف سواء جعل مصداق الغير والغيريّة الحيّ أو الميّت، فإن أحد الأجزاء المقوّمة لحصول الشرك كما ذكروا هو ضمّ غير اللَّه تعالي إليه، وهذا لا يختلف في تحقّقه سواء كان الغير حيّاً أو ميّتاً، فالتفريق بلا فارق.

وأما ما ذكروه من التعلّق بالقادر، حيث قيّد الجواب بالقادر، فنقول فيه: إن كانت القدرة التي يعتقدها للحيّ نابعة من ذاته بلحاظ الاستقلال لا من إقدار اللَّه عزّ وجلّ وتمكينه فهو الشرك الأكبر، وقد كرّ هذا المجيب علي ما فرّ منه.

وأما إن كان يعتقد أن هذه القدرة من اللَّه تعالي ومضافة إلي المخلوق من قبل الخالق فأي فرق بين الحيّ والميت؟! فكما قد يُقدر تعالي الحيّ يُقدر روح الميّت علي ما أقدر عليه الحيّ.

ثم إنه لا معني للتفريق أيضاً بين الاستعانة بالأمور العادية وغيرها، فهل إن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 233

قدرة اللَّه تعالي تنحسر في الأمور العادية والحسّية ويكون هناك ندّ

فيها لقدرة الربّ عزّ وجلّ وهي قدرة الحيّ الحاضر؟! فإن هذا هو القول بالثنوية، ومعناه أنه في الأمور غير العادية لابدّ من التوحيد بقدرة الربّ فيها وأما في الأمور العادية فنؤمن بالثنوية.

وحيث أن الثنوية باطلة وشرك صريح فلابدّ من التوحيد في جميع الأفعال الإلهية، وأنها كلّها تستند من دون جبر إلي الباري عزّ وجلّ، من دون أي درجة من درجات التفويض، وحينئذٍ يستوي الحال في الأمور العادية والأمور غير العادية.

جحود التوسّل يستند إلي المذاهب الحسيّة المادية: … ص: 233

ثم ما هو الفرق في التوسّل في شفاء مريض علي يد طبيب نادرة زمانة وبين التوسّل بأحد أولياء اللَّه تعالي في الشفاء؟!

فإن مورد الحاجة في هذا المثال عادي، فهل الكلام في مورد الحاجة وأنه لابدّ أن يكون من الأمور العادية أو في السبب المتوسل به؟ وما هو الفرق في السبب بين العادي وغير العادي إذا كان الأمر بيد اللَّه تعالي وهو علي كلّ شي ء قدير؟!

مع أن الأدلّة الشرعية والدراسات الحديثة العلمية أثبتت أن طاقات البدن البرزخي لا تقاس بطاقات بدننا المادّي وقدرته، وأن البدن البرزخي يحتوي علي طاقات هائلة تفوق قدرة أبداننا المادّية بكثير جدّاً، وعليه كيف نتصور أن الحيّ قادر علي قضاء الحوائج بما لا قدرة للميت عليه بروحه وبدنه البرزخي؟!

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 234

أضف إلي ذلك كلّه أن تقييد الاستعانة والتوسّل بالأمور الحسّية ناشي من الايمان بأصالة الحسّ والمادّة والتنكّر للعوالم المخلوقة الأخري التي ما وراء الحسّ والمادّة، وأن كلّ ما غاب عن الحسّ ينكر، وهذا الكلام أشبه بالفلسفات المادّية الحسّية، التي آمنت بأضعف العوالم وأدني المراتب الوجودية وتنكّرت لبقيّة العوالم العلوية.

هذا بالنسبة إلي دفع الجواب الأول.

تفصيل الجاحدين للتوسّل في الوسائط: … ص: 234

وأما الجواب الثاني: إن صاحب الشبهة بعد أن استشعر أن الجواب الأوّل غير موزون من الناحية العقلية تشبّث بالنصّ والإجماع وأن توسّل وتشفّع الحيّ بالحيّ في الأمور العادية الحسّية جائزة بالنصّ والإجماع، وأما الاستغاثة والتوسّل بالأموات فهو من جنس عمل الوثنية.

والتمسّك بالدليل النقلي في المقام، سواء في جانب الجواز أو النفي غير تام من وجوه:

الأول: إن بحث الشرك بحث عقلي لا سيما في الشرك الأكبر، فهو من أوليّات العقيدة التي للعقل فيها دور ومجال واسع، وإذا كان عقلياً يرد عليه ما ورد في الدفع الأول، من

أن حكم العقل وانطباق حدّ الشرك علي الحيّ الحاضر والميّت سواء.

الثاني: الاستدلال علي التحريم بأن الطلب من الأموات من جنس عمل الوثنيين، تمسّكاً بعموم دليل التحريم، مع أن موضوعه ومصبّه ما لم يأذن به اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 235

عزّ وجلّ، إذ سبق أن محطّ ومصبّ انكار العقيدة الوثنية في القرآن الكريم هو التوجّه إلي ما لم يأذن به اللَّه تعالي ولم ينزل به سلطاناً، وكونه تحكيماً لسلطان العبيد وإرادتهم علي سلطان اللَّه وإرادته، ولم يكن المحذور في أصل الوساطة، وسبق أيضاً أن اللَّه عليّ حكيم، متعال عن الجسمية والتجسيم وحكيم غير معطّل، فلابدّ من الوسائط والحجج، والعبادة إنما تتحقّق بالطوعانية للَّه تعالي وإن كان التوجّه بالفعل إلي الحجر كالتوجّه إلي الكعبة الشريفة، والشرك إنما يتحقّق بالاستكبار علي اللَّه تعالي حتّي مع نفي الواسطة كما في إبليس.

الثالث: إذا كان توسيط غير اللَّه تعالي شركاً، فكيف يعقل تجويزه بالنصّ؟! فإن اللَّه عزّ وجلّ لا يأمر بالشرك.

وهذا يعني أن توسيط الغير بحدّ ذاته ليس شركاً، فإذا جازت الاستغاثة بالحيّ لقيام النص والاجماع، أي الإذن الشرعي، فلا فرق إذن في الاستغاثة بين الحيّ والميّت ما دام المجوّز لذلك هو الإذن، إذ يتّضح أن المدار في الشرك ليس علي الغيرية مع اللَّه تعالي كما فرضه القائل، بل علي الإذن وعدمه وعلي وجود الأمر وعدمه، وقد أذن اللَّه عزّ وجلّ بذلك في كثير من الآيات القرآنية، كما تقدّم في قصة آدم وغيرها.

الشبهة الثانية: التوسّل خلاف كلمة التوحيد … ص: 235
اشارة

إن التوجّه والقصد والدعاء والنداء لغير اللَّه عزّ وجلّ ينافي مقتضي كلمة التوحيد، وهي قول (لا إله إلّااللَّه).

بيان ذلك:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 236

اختلف المفسّرون في بيان قول (لا إله إلّااللَّه):

فهل المراد من تلك الكلمة المباركة التوحيد في الذات أو التوحيد

في الصفات والأسماء أو التوحيد في الأفعال أو التوحيد في الخضوع والعبادة؟

وهذا الاختلاف ناشئ من الاختلاف في تفسير معني الألوهية (لا إله) وتفسير معني لفظة (اللَّه).

فهل اسم الجلالة علم للذات أو هو اسم مشتقّ من التأليه؟

فإن كان مشتقّاً من التأليه وباقٍ علي المعني الوصفيّ حينئذٍ يكون المعنيان متحدّين أو متقاربين.

وأما إذا كان لفظ الجلالة في الأصل علماً للذات فيكون علي خلاف المعني الأول وهو الألوهية والتأليه في مقطع (لا إله).

وكيفما كان؛ فإن لفظ (إله) الذي جاء في كلمة التوحيد معناه في اللغة من أله يأله إذا تحيّر، ومعني ولاه أن الخلق يولهون إليه في حوائجهم ويضرعون إليه فيما يصيبهم، ويفزعون إليه في كلّ ما ينوبهم، كما يوله كلّ طفل إلي أمه «1».

إذاً فالمعني اللغوي يتضمّن طلب الشي ء والتوجّه نحوه.

وأما الإله في الاصطلاح:

فقد اختلفوا في بيان معناه؛ فبعض قال: هو بمعني الاتجاه والقصد، وبعض آخر فسّره بالحبّ والعشق، وثالث قال: وله يأله من عبد يعبد، ورابع قال: وله يأله بمعني اتخذه ربّاً وخالقاً، وغير ذلك من المعاني التي ذكرت لمعني (إله).

ولكن اتفقوا علي أن التأليه فعل المخلوق، فأله ووله إنما يحكي شأن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 237

المخلوق وهو التوحيد في العبادة، وأما توحيد الذات أو الصفات أو الأفعال فإنما هو مرتبط بالواقعية ونفس الأمر، وأن هناك ذات واجبة قيّومة غنية الذات لها الأسماء الحسني والكلمات التامّة وهذا كلّه غير مرتبط بفعل المخلوقات.

ولذلك يقال إن كلمة (لا إله إلا اللَّه) تختلف عن التعبير ب (يامن لا هو إلّاهو)، فإن مفاد هذه العبارة غير مرتبط بفعل العبد، بل هو إخبار عن نفي أي ذات مستقلة واجبة الوجود إلّاذات اللَّه عزّ وجلّ.

ولكن عندما نقول: (لا إله إلا اللَّه) فإن التأليه

فيه مادّة مأخوذة من فعل العبد وليس هو وصفاً أو معنيً قائم بذات واجب الوجود.

ومن ثم يقال إن النبيّ صلي الله عليه و آله بعث بكلمة (لا إله إلّااللَّه) ولم يبعث ب (يا من لا هو إلّا هو)، إذ أن هذا توحيد الذات، والبشريّة قد أقرّته واعتقدت به، وهي الآن في خطيً متقدّمة من التوحيد الأفعالي والتوحيد في العبودية.

والخلاف في زمن البعثة مع المشركين ليس في توحيد الذات، بل في توحيد العبودية وتوحيد الدعاء والطلب والتوسّل والتوجّه أو في توحيد الأفعال باسنادها إلي اللَّه عزّ وجلّ.

فالنبيّ صلي الله عليه و آله بُعث بالتوحيد في الألوهية والعبادة والخضوع والخشية والوله والتوجّه، فلابدّ من ترك الدعاء والتوسّل والعبادة لغير اللَّه تعالي، وهو ما كان عليه مشركي العرب.

والحاصل: أن معني الشرك الذي حاربه الاسلام بكلمة التوحيد هو جعل أنداد للَّه تعالي يستغاث ويتوسل بهم، فالتوسل جاهلية جديدة استُبدلت بالجاهلية القديمة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 238

الجواب عن الشبهة الثانية: … ص: 238

كان حاصل هذه الشبهة هو أن مقتضي قول: (لا إله إلّااللَّه) هو التوحيد في العبادة، فإذا دعي غير اللَّه عزّ وجلّ كان هذا نوعاً من العبادة والتأليه لغير اللَّه عزّ وجلّ.

والجواب عن هذه الشبهة اتضح مما ذكرناه في الدليل العام وكذلك ما ذكرنا من الجواب علي الشبهة الأولي، وحاصله: أن التوسّل بالوسائط الإلهية التي أمر اللَّه عزّ وجلّ بالتوجّه إليها هي عبادة للَّه تعالي وطاعة وانصياعاً لأوامره وليس هو عبادة للوسائط، بل قلنا إن التوسّل طوعانية للأوامر الإلهية وهو عين التوحيد التام، فالتوسل مقتضي التوحيد في العبادة وجحوده وإباؤه هو الاستكبار والكفر المنافي لكلمة التوحيد، ونبذ التوسّل جاهلية إبليس الذي أبي واستكبر وكان من الكافرين، فالتوسّل بالوسيلة المنصوبة للَّه تعالي هو قصد للَّه والصدّ عن تلك الوسيلة صدّ

عن التوجّه إليه تعالي؛ لأن المفروض أن تلك الوسيلة والآية والكلمة هي علامة يُهتدي بها إليه تعالي، وتفتّح بها أبواب سماء الحضرة الإلهية، والعلامة سمة ووسم وإسم إلهي يُدعي به، بل إن قول القائل التوسّل باللَّه معني مقلوب غير صحيح، فإنّ الباري تعالي لا يجعل وسيلة إلي غيره؛ إذ ليس وراء اللَّه منتهي ولا غاية كي يجعل هو تعالي واسطة إليها، بل هو غاية الغايات، وإلي شموخ عظمته توسّط الوسائط ويتوسّل بالوسائل، وقد تقدّم أن الاعتقاد بضرورة الواسطة والوسيلة إلي اللَّه تعالي هو حاقّ حقيقة تعظيم اللَّه وتنزيهه، ولم ينكر القرآن علي المشركين هذه العقيدة، وهي ضرورة الحاجة إلي الوسيلة بين العبيد وخالقهم؛ ليقتربوا من خالقهم، لضرورة الحاجة إلي التقرّب والنجاة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 239

من البعد من جهة العبيد، وإن كان الباري تعالي قريب من كل مخلوقاته علي السواء، إلّاأن مخلوقاته ليست في القرب منه علي استواء ولا في القرب من عظمته ونوره وعلمه وقدرته علي سواسية، فضرورة الحاجة إلي الوسيلة والقيام بالتقرب ضرورة نابعة من العبودية والفقر إلي الغني المطلق، وهذا ما لم ينكره القرآن علي المشركين، كيف وهي عين التوحيد والتعظيم، بل إنما أنكر عليهم اتخاذ الوسائل والوسائط من قبل أنفسهم ومن قرائحهم ومن فرض إرادتهم في تعيين الوسيلة علي إرادة اللَّه، وهي من تكبّر المعبود علي العابد، فالإنكار عليهم نشأ من كونهم توسّلوا بوسائل وأسماء ما أنزل اللَّه بها من سلطان، ومن ذلك يكون الجاحدون لضرورة التوسّل بالوسائط المنصوبة من قبله تعالي أشدّ جاهلية من المشركين؛ لأنهم لا يرجون للَّه وقاراً ولا تعظيماً، فيجعلون الباري تعالي منالًا تحت أيديهم، لأن إنكار الحاجة إلي الوسيلة والوسائل هو إنكار لعظمة اللَّه وكبريائه وعلوّ شأنه ورفعته

وعزّته وجبروته وكينونته بالأفق الأعلي، في حين قاهريته تعالي وهيمنته علي تمام مخلوقاته وأنه خبير بصير، إلّاأن الحال من ناحية المخلوق تجاه الخالق هو بُعد المخلوق عن معرفة خالقه وبعده عن مقام الزلفي لباريه وكذا بعده عن حظوة الكرامة عند خالقه، وبعده عن استحقاق الإجابة والمنّ والتفضّل الإلهي، بعد كون المخلوق في حُجب التقصير والقصور والجهل والجهالة، مما يستحق بها الطرد لا القرب والإبعاد لا الدنو والعقوبة لا الثواب والحرمان لا الإنعام، فكل هذه الحجب المانعة عن القرب يزيلها العبد بوجاهة الوسيلة عند الربّ العظيم، لا سيّما وأن اللجوء إلي الوسيلة التي هي آية للربّ المتعال هو لُجأ إلي الجناب الإلهي،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 240

وتعظيمها تعظيم للفعل الإلهي وزيادة خضوع للربّ بالخضوع إلي ما هو بمنزلة صفاته في مقام الفعل فضلًا عن مقام ذات عزّه تعالي.

الشبهة الثالثة: التوسّل مخالف للآيات القرآنية … ص: 240
اشارة

حاول أصحاب هذه الشبه الاستناد إلي بعض الآيات القرآنية، وادّعوا أنها تدلّ علي أن التوسّل والقصد لا يكون إلّاللَّه عزّ وجلّ، وأن التوسّل بغيره شرك وإلحاد، منها الآيات التالية:

1- قوله تعالي: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «1».

فقوله تعالي: «فَادْعُوهُ بِهَا» معناه أنه في مقام الدعاء والتوجّه لا يُدعي إلّا بأسماء اللَّه عزّ وجلّ، وأما غير الأسماء الإلهية فيشملها قوله تعالي: «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ» أي ينحرفون عنها إلي أسماء المخلوقات، كقول القائل: يا محمّد ويا عليّ ويا فاطمة، فإن هذا- بحسب زعمهم- انحراف وإلحاد في أسماء الباري تعالي.

2- قوله تعالي: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا» «2».

3- قوله تعالي: «وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ» «3».

4- قوله تعالي: «ذَلِكَ

بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 241

اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» «1».

5- قوله تعالي: «قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا» «2».

هذه الآيات المباركة لسانها واحد واستدلالهم بها قريب من الاستدلال بالآية الأولي، حيث أن هذه الآيات القرآنية تنهي عن أن يدعو الإنسان مع اللَّه أحداً، أي لا يعبد مع اللَّه مخلوقاً من المخلوقات، وإذا كان الدعاء روح العبادة وقوامها فسوف يكون منهيّاً عنه بمقتضي صريح هذه الآيات الكريمة؛ لكونه من الشرك الصريح.

6- قوله تعالي: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» «3».

7- قوله تعالي: «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ» «4».

وهذا اللسان من الآيات القرآنية يؤكّد علي أن التوجّه إلي الغير بغية الاستنصار به شرك ومغالاة يوجب الخذلان الإلهي.

8- قوله تعالي: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ» «5».

9- قوله تعالي: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَي اللَّهِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 242

زُلْفَي» «1».

فهاتان الآيتان دلّتا علي وجوب نبذ مقالة المشركين الذين جعلوا أصنامهم شركاء في الدعاء والتوسّل والتقرّب والتشفّع والوساطة بينهم وبين اللَّه عزّ وجلّ، والإسلام جاء لكسر مثل هذه الأصنام وإبطال عقيدة الصنمية والوثنية والمغالاة والتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالي، وهو ما ابتلي به مشركو العرب، إذ لم يكن شركهم في ذات اللَّه تعالي أو صفاته، بل كان شركهم شركاً في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل.

فيُعلم من هذه الآيات أن التوحيد في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل أساس الدين، وهدف الرسالة الإسلامية الخاتمة، وذلك لأن صحة الأعمال والنسك العبادية مشروطة بصحّة العقيدة، فمن يعمل ويعبد وكان في

معتقده الدينيّ شي ء من الغلو والصنمية للأشخاص يحبط عمله كلّه، ويستدلّون لذلك بقوله تعالي: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» «2»

، وقوله تعالي: «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «3»

، فصحّة العقيدة بالتوحيد شرطاً في صحة وقبول الأعمال، ولابدّ حينئذٍ من نبذ كلّ ما يوجب الشرك وبطلان العقيدة، كالتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 243

الجواب عن الشبهة الثالثة: … ص: 243
اشارة

الشبهة الثالثة عبارة عن تمسّكهم ببعض الآيات القرآنية التي زعموا أنها تنهي عن التوجّه والقصد إلي غير اللَّه عزّ وجلّ منها:

قوله تعالي: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ» «1»

، فلا يجوز التوسّل والدعاء بغير الأسماء الحسني التي جاءت في قوله تعالي: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي» «2».

إذن لابدّ من التوحيد في الدعاء الذي هو مخّ العبادة ولا يجوز القصد والتوجّه في الدعاء إلي غير اللَّه عزّ وجلّ وأسمائه الحسني؛ لأنه شرك وإلحاد بالأسماء الإلهية.

الجواب الأول: حقيقة الأسماء الالهية مستند للتوسّل … ص: 243

في البدء لابدّ من الإجابة عن التساؤل التالي:

ما هو المراد من الأسماء الإلهية الواردة في الآيات المباركة؟

الاسم في اللغة عبارة عن السّمة والعلامة.

قال ابن منظور: (واسم الشي ء علامته).

(قال أبو العباس: الاسم وسمة توضع علي الشي ء يُعرف به، قال ابن سيدة:

والاسم اللفظ الموضوع علي الجوهر أو العرض لتفصل به بعضه عن بعض، كقولك مبتدئاً: اسم هذا كذا).

(قال أبو إسحاق: إنما جعل الاسم تنويهاً بالدلالة علي المعني) «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 244

إذن اسم الشي ء سمته وعلامته وصفته الدالّة عليه.

والأسماء والصفات تنقسم إلي ذاتية وفعلية، فللّه تعالي أسماء وصفات ذاتية هي عين ذاته غير زائدة عليها، وله عزّ وجلّ أسماء وصفات فعلية هي عين فعله.

فالقدرة والعلم والحياة صفات ذاتية يُشتقّ منها القادر والعالم والحيّ، وهي أسماء ذاتية غير زائدة علي الذات الإلهية المقدّسة.

والخلق والرزق والتدبير والربوبية والحكم والعدل وغيرها صفات فعلية يشتقّ منها أسماء فعلية، هي الخالق والرازق والمدبّر والربّ والحكم والعدل، ولا ريب أن الأسماء الفعلية غير الذات وليست عينها مخلوقة لها مشتقّة من أفعاله عزّ وجلّ.

ولا ريب أيضاً أن جملة وافرة من الأسماء الإلهية هي أسماء فعلية مشتقّة من أفعاله ومخلوقاته تعالي.

والمخلوق

يكون اسماً للَّه عزّ وجلّ بملاحظة صدوره من خالقه وأنه فقير له متقوّم به ليس له من نفسه شي ء، دالّ بسبب افتقاره بما فيه من كمال علي كمال خالقه وباريه، فهو سمة وعلامة علي صانعه، وما فيه من عظمة وحكمة دالّة علي عظمة وحكمة الخالق؛ إذ ليس له من ذاته إلّاالفقر والاحتياج.

الجواب الثاني: الكلمة والآية: … ص: 244

إن الكلمة والآية مع الاسم متقاربة المعني متّحدة المضمون، فهي وإن لم تكن ألفاظاً مترادفة، إلّاأن مضمونها والمراد منها في اللغة وفي القرآن الكريم واحد، وهو الدلالة علي الشي ء والعلامّية والمرآتية له.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 245

ففي لسان العرب:

(الآية العلامة) (وأيّا آية: وضع علامة).

وفيه أيضاً: (وقال ابن حمزة: الآية في القرآن كأنها العلامة التي يفضي منها إلي غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية) «1».

كذلك قال في اللسان:

(كلمات اللَّه أي كلامه وهو صفته وصفاته) «2».

أضف إلي ذلك أن الكلمة في حقيقتها دالّة علي مراد المتكلم وكاشفة عنه.

إذن الأسماء والآيات والكلمات في شطر وافر منها عبارة عن مخلوقات دالّة بوجودها علي وجود صانعها، ودالّة بعظمتها واتقانها وهادفيتها علي عظمة وقدرة وحكمة الباري عزّ وجلّ، ومن ثمّ يكون كلّ مخلوق إسماً من أسماء اللَّه تعالي وآية من آياته وكلمة من كلماته، ولكن الأسماء والآيات والكلمات علي درجات في الصغر والكبر، فكلّما كان الاسم أعظم والآية أكبر، لما أعطيت من المقامات والكرامات الإلهية كلّما كانت آيتيّة ذلك المخلوق وإسميته أعظم، لا سيما المخلوق الأول وهو نور النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

وقد ورد هذا الاستعمال في القرآن الكريم في موارد كثيرة جدّاً، منها:

1- قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «3».

2- قوله تعالي: «وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص:

246

آيَةً لِلْعَالَمِينَ» «1».

3- قوله تعالي: «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» «2».

4- قوله تعالي: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَي مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» «3».

5- قوله تعالي: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ* فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الِمحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» «4».

فقد أطلق في هذه الآيات المباركة علي مريم عليها السلام أنها آية، وعلي عيسي عليه السلام أنه كلمة اللَّه وآيته للعالمين.

6- قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» «5».

7- قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «6».

8- قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 247

إِمَامًا» «1».

9- «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَامُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ» «2».

فإن هذه المخلوقات العظيمة عند اللَّه عزّ وجلّ أسماء وآيات وكلمات وعلامات للَّه تعالي، وحينئذٍ تكون مشمولة لإطلاق قوله تعالي: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ» «3»

فهذه الآية المباركة وغيرها، التي ذكروها للتدليل علي مدّعاهم لا تعني النهي عن التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ بالوسائط، بل هي توجب وتعيّن التوجّه إلي اللَّه تعالي بأعاظم مخلوقاته وأسمائه الفعلية.

إذن ليست الآية المباركة غير صالحة للاستدلال بها علي مدّعاهم فحسب، بل هي تحكمهم وتدينهم بالإلحاد عن أسمائه وتنصّ علي ضرورة توسيط الأسماء الإلهية والمخلوقات الوجيهة عند اللَّه تعالي، ولابدّ من عدم الالحاد فيها والاعراض عنها في الدعاء.

لكن لابدّ

من الالتفات إلي أن النظرة إلي الوسائط لابد أن لا تكون نظرة استقلالية وموضوعية وبما هي هي، بل لابدّ أن تكون نظرة آلية حرفية آيتيّة، أي بما هي يُنظر بها إلي اللَّه تعالي، فالتوجّه بها لا إليها بما هي هي.

وبناء علي ذلك يكون التعاطي مع الأسماء والآيات والوسائط علي ثلاثة مناهج:

الأول: منهج إبليس وهو رفض وساطة الآيات والأسماء والمخلوقات

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 248

الوجيهة عند اللَّه عزّ وجلّ وإنكارها والإلحاد بها والصدّ عنها، وهذا شرّ المناهج، وهو الكفر والحجاب الأعظم؛ إذ مع الالحاد في تلك المخلوقات العظيمة والأسماء الإلهية لا يمكن التوجّه والزلفي إلي اللَّه عزّ وجلّ؛ لأنه ليس بجسم وهو حقيقة الحقائق والمقوّم لها، فلا يجابه ولا يقابل، فلابدّ من التوجّه إلي المظاهر والمجالي والآيات.

الثاني: وهو منهج المغالين الذين ينظرون إلي الأسماء الإلهية بالنظرة الاستقلالية وبما هي هي ويتوجّهون إليها لا بها، وهذا أيضاً من الشرك والحجاب الذي يمنع عن معرفة اللَّه تعالي، ولكنّه أهون من سابقه؛ إذ أصحابه علي سبيل نجاة فيما إذا شملهم اللَّه عزّ وجلّ بلطفه ورأوا ما وراء الآية من الحقائق، بخلاف من أعرض عن الآية بالمرّة.

الثالث: التوجّه بالآيات وتوسيطها في الدعاء، وهذا هو التوحيد التام الذي يوصل إلي معرفة اللَّه تبارك وتعالي.

فالنظرة في هذا المنهج إلي الأسماء الإلهية الفعلية من حيث هي مخلوقة للباري تعالي ومرتبطة به ومفتقرة إليه ودالّة عليه، وأكرم المخلوقات وأعظم الآيات هم النبيّ الأعظم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام؛ إذ حباهم اللَّه عزّ وجلّ بالكرامات والمقامات التكوينية، التي تفضل جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين، فهم عليهم السلام الأسماء التي تعلّمها آدم وفُضل بها علي الملائكة كلّهم أجمعون، وذلك بنصّ سورة البقرة في

قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» «1»

، حيث

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 249

جاء التعبير فيها ب (عرضهم) ولم يقل: عرضها، وكذا التعبير ب (هؤلاء) ولم يقل:

هذه، كلّ ذلك يدلّ علي أن تلك الأسماء موجودات نورية مخلوقة حيّة شاعرة عاقلة، أفضل من جميع الملائكة، ولم يعلم بها الملائكة ولا يحيطون بها وهي تحيط بهم وهي أوّل ما خلق اللَّه تعالي، فهم عباد ليس علي اللَّه أكرم منهم، أُسند إليهم ما لم يسند إلي غيرهم، ومكّنهم اللَّه عزّ وجلّ ما لم يمكّن به غيرهم بإرادته وإذنه وسلطانه.

والحاصل: إن تلك الآيات التي ذكروها لنفي التوسّل تدلّ علي ضرورة التوجّه والتشفّع والتوسّل بالآيات الكبري، والأسماء الفعلية الحسني والعظمي وهم محمّد صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام- إلي اللَّه عزّ وجلّ، والباء في قوله تعالي:

«فَادْعُوهُ بِهَا» للتوسيط وجعل الآيات والأسماء واسطة؛ ولذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«يا هشام اللَّه مشتق من إله، وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّي، فمن عبد الإسم دون المعني فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومن عبد الاسم والمعني فقد أشرك وعبد الإثنين، ومن عبد المعني دون الإسم فذاك التوحيد، أفهمت يا هشام؟ قال: قلت: زدني، قال: للَّه تسعة وتسعون إسماً فلو كان الإسم هو المسمي لكان كل إسم منها إلهاً، ولكن اللَّه معني يُدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره، يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار إسم للمحرق، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا المتخذين مع اللَّه عزّ وجلّ غيره، قلت: نعم، فقال: نفعك اللَّه به وثبّتك يا هشام،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 250

قال: فواللَّه

ما قهرني أحد في التوحيد حتي قمت مقامي هذا» «1»

، فبيّن عليه السلام أن الإسم غير المسمي وهو الذات الإلهية ومغاير لها، ولو كان الاسم هو عين الذات الإلهية لكان كل اسم إلهاً ولتكثرت الآلهة، ولكن اللَّه ذات أحدية واحدة يُدلّ عليه وله علامات هي هذه الأسماء المتكثرة المتعدّدة، فالأسماء آيات وعلامات وكلمات دالّة ووسيلة إلي الذات، فظهر أن قوله تعالي: «لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا» «2»

برهان قرآني علي ضرورة الوسيلة، وهي الكلمات والآيات الإلهية، بأن يدعي اللَّه بها، فلا يُدعي اللَّه بدونها، بل لابدّ من توسيطها في دعاء اللَّه، وذلك بالتوجّه بها إليه، فلابدّ من تعلّق التوجّه بها كي يتوجّه منها إلي اللَّه، ولابدّ من تعلّق الدعاء بها ليتحقّق دعاء اللَّه تعالي، وقد جعلت الآية الإعراض عن الأسماء والكلمات والآيات الإلهية إلحاداً ومجانبة وزيغاً عن الطريق إلي اللَّه، ومن ثمّ قد أُكّد في الآية أن الأسماء الإلهية بكثرتها الكاثرة هي برمّتها ملك للَّه تعالي مملوكة له، فالاستخفاف بها استخفاف بالعظمة الإلهية، وجحود وساطتها استكبار وتمرّد علي الشأن الإلهي، ومنه يعرف اتحاد الإسم والوجه وأن الأسماء هي وجه اللَّه التي يتوجّه بها إليه، وأن من له وجاهة ووجيه عند اللَّه هو وجه للَّه يتوجّه به إليه تعالي، فيكون إسماً وآية وكلمة للَّه تعالي.

نعم بين الأسماء والكلمات والآيات درجات وتفاضل في الدلالة عليه تعالي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 251

عظمة وكبراً.

وذلك لأن الاسم إذا كان من أسماء الأفعال يكون مخلوقاً للَّه تعالي وآية من آياته، فالعبادة ليست له، بل لباريه تعالي، ومن ثم يتوجّه إليه كمرآة وآية يُنظر بها ولا ينظر إليها؛ ولذا تكون إسماً وعلامة، وأما إذا نظر إلي الاسم بما هو هو، فيكون حينئذٍ صنماً موجباً للشرك والكفر وهو الغلو

المنهيّ عنه، ولكن هذا لا يعني رفض الأسماء والوسائط، فإن ذلك يحجب عن المسمّي أيضاً، فلا يلحد بها ولا ينظر إليها بالاستقلال بل ينظر بها، وذلك لما بيّناه سابقاً من أنه لا تعطيل ولا تشبيه، فالالحاد في الأسماء تعطيل للباري بعد عدم كونه جسماً يقابل أو يجابه أو يشابه مخلوقاته وهو نفي الجسميّة، فلا محيص عن التوجّه بالأسماء، لا سيّما الاسم الأعظم وهو أوّل ما خلق اللَّه عزّ وجلّ، نور النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، الذين بواسطتهم وصل آدم إلي ما وصل إليه من الخلافة، عندما علّمه اللَّه عزّ وجلّ تلك الأسماء الحيّة الشاعرة العاقلة المجرّدة النوريّة، التي هي أعظم آيات الباري تعالي وأفضل من جميع الملائكة.

الكلمات التامّات:

هناك آيات عديدة تدلّ بمعونة الروايات الواردة فيها- علي أن الكلمات التامّات والآيات الكبري للَّه عزّ وجلّ هم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام منها:

1- ما تقدّم من قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» «1»

، وقد سبق تقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إن اللَّه تبارك وتعالي كان ولا شي ء، فخلق خمسة من نور جلاله، وجعل لكلّ واحد منهم إسماً من أسمائه المنزلة، فهو الحميد وسمّي النبيّ محمّداً صلي الله عليه و آله، وهو الأعلي وسمّي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 252

أمير المؤمنين عليه السلام عليّاً، وله الأسماء الحسني فاشتقّ منها حسناً وحسيناً، وهو فاطر فاشتقّ لفاطمة من أسمائه إسماً، فلمّا خلقهم جعلهم في الميثاق، فإنهم عن يمين العرش، وخلق الملائكة من نور، فلما نظروا إليهم عظّموا أمرهم وشأنهم ولقّنوا التسبيح

فذلك قوله: «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» «1»

فلمّا خلق اللَّه تعالي آدم صلوات اللَّه وسلامه عليه نظر إليهم عن يمين العرش، فقال: ياربّ مَنْ هؤلاء؟ قال: ياآدم هؤلاء صفوتي وخاصّتي، خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم إسماً من أسمائي، قال: ياربّ فبحقّك عليهم علّمني أسماءهم، قال: ياآدم فهم عندك أمانة، سرّ من سرّي، لا يطّلع عليه غيرك إلّابإذني، قال:

نعم ياربّ، قال: ياآدم أعطني علي ذلك العهد، فأخذ عليه العهد، ثم علّمه أسماءهم ثم عرضهم علي الملائكة، ولم يكن علّمهم بأسمائهم، «فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ» «2»

علمت الملائكة أنه مستودع وأنه مفضّل بالعلم، وأُمروا بالسجود إذ كانت سجدتهم لآدم تفضيلًا له وعبادة للَّه، إذ كان ذلك بحقّ له، وأبي إبليس الفاسق عن أمر ربّه» «3».

2- قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ»، ويمكن تقريب دلالة الآية إجمالًا علي كون الكلمات هي النبي وأهل بيته بما تقدّمت الإشارة من

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 253

إطلاق الكلمة في القرآن الكريم علي النبي عيسي عليه السلام بما هو حجّة للَّه اصطفاه علي العباد، فمنه يعرف أن الكلمة في استعمال القرآن تطلق علي حجج اللَّه وأصفيائه، ويشير إلي ذلك أيضاً قوله تعالي: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا» «1»

حيث تومئ الآية إلي كون كلمة اللَّه تعرف بالصدق والعدالة وهو وصف لحجج اللَّه، وهذا الوصف أحري بالصدق علي سيد الأنبياء بعد صدقه علي النبي عيسي عليه السلام، وقد وردت بذلك الروايات من الفريقين كما سيأتي معتضداً ذلك بأن الأسماء التي تعلّمها آدم وشرّف بها علي الملائكة قد مرّ أنها عرّفت بضمير

الجمع للحي الشاعر العاقل وأُشير إليها بإسم الإشارة للجمع الحي الشاعر العاقل، مما يدلُّ علي أنها موجودات وكائنات حيّة شاعرة عاقلة، نشأتها في غيب السماوات والأرض لعدم علم ملائكة السماوات والأرض بها، كما أُشير إلي ذلك بقوله تعالي: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «2»

ولا ريب أن أشرف الكائنات بنصوصية الكثير من الآيات وروايات الفريقين هو سيد الأنبياء، كما قد تبيّن أن الكلمات التي بشرفها قُبلت توبة آدم أوّلها وأسماها هو سيد الأنبياء، وحينئذٍ تُبيّن الآيات أن تلك الأسماء والكلمات حيث عبّر عنها بلفظ الجمع يقتضي أن مع سيد الأنبياء حجج آخرين للَّه تعالي شُرّف بمعرفتهم آدم وتاب اللَّه بهم عليه، ولا نجد القرآن الكريم يُنزّل منزلة نفس النبي أحداً من الأنبياء والرسل، بل نزل علي بن أبي طالب منزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله وهذه خصيصة اختصّ هو عليه السلام بها، كما لم يُشرك اللَّه تعالي في طهارة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 254

النبي وعصمته ونمط حجيّته وعلمه بالكتاب كلّه مع العديد من المقامات الأخري أحداً من أنبيائه ورسله، لكنه أشرك أهل بيته، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، كما في آية التطهير والمباهلة ومسّ الكتاب من المطهرين من هذه الأمة وغيرها من الآيات النازلة فيهم.

فتبيّن أن قرين سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله في المراد من الكلمات والأسماء هم أهل بيته عليهم السلام.

وقد ورد في كتب الفريقين من السنّة والشيعة أن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه هم النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، فدعا اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الكلمات فتاب عليه.

منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن عمر قال: قال رسول اللَّه

صلي الله عليه و آله: «لما اقترف آدم الخطيئة، قال: ياربّ أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي، فقال: ياآدم وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟، قال: ياربّ لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت علي قوائم العرش مكتوباً لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنك لم تُضف إلي إسمك إلّاأحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت ياآدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك ولولا محمّد ما خلقتك» «1»

، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد.

ومنها: ما أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن ابن عباس قال:

«سألت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قال:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 255

سأل بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّاتبت علي فتاب عليه» «1».

ومنها: ما أخرجه السيوطي عن الإمام علي عليه السلام أنه ذكر أن اللَّه عزّ وجلّ علّم آدم الكلمات التي تاب بها عليه وهي: «اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانك لا إله إلّاأنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم.

اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانك لا إله إلّاأنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، فهؤلاء الكلمات التي تلقّي آدم» «2».

3- قوله تعالي: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ» «3».

فالكلمة اطلقت علي عيسي عليه السلام، وهذا الإطلاق غير خاص به عليه السلام، بل هو شامل لكلّ الأنبياء لا سيما أولوا العزم منهم ولا سيما خاتم النبيين، فهو أفضل الأنبياء وسيّدهم وأعظمهم، فلا محالة يكون هو الكلمة الأتمّ، وكذا من هم نفس النبيّ صلي الله عليه و آله وهم أهل بيته عليهم السلام.

4- قوله

تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» «4»

فإن إبراهيم عليه السلام بلا شك كلمة وآية من آيات اللَّه تعالي؛ لأنه أفضل من عيسي عليه السلام، ومع ذلك امتحنه اللَّه عزّ وجلّ بكلمات تفوقه في المقام والمنزلة،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 256

ولمّا ثبت في الامتحان فاز بمقام الإمامة بعد الخلّة والنبوّة والرسالة، فلا محالة تكون الكلمات هم سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله وآخرين غير النبي إبراهيم والنبي عيسي وموسي وآدم عليهم السلام.

والكلمات كما جاء في الروايات- هم خمسة أصحاب الكساء، فإبراهيم نال مقام الخلافة في الأرض والزلفي عند اللَّه عزّ وجلّ بالكلمات، كما أن آدم فضّل علي الملائكة وأصبح مسجوداً لهم لتعلّمه الأسماء الحسني والآيات العظمي، وهم أهل آية التطهير عليهم السلام.

وكذلك آدم تسنّم مقام الخلافة الإلهية بتوسّط علم الأسماء الحيّة العاقلة النوريّة، التي تحيط بجميع المخلوقات، ولا يحيط بها مخلوق من المخلوقات إلّا بما شاء اللَّه عزّ وجلّ.

عن المفضّل بن عمر عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، قال: سألته عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ما هذه الكلمات؟

قال: «هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب اللَّه عليه، وهو أنه قال:

أسألك بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّاتبت عليّ، فتاب اللَّه عليه إنه هو التواب الرحيم» «1».

5- قوله تعالي: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَامُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ» «2».

وقد كان المعصومون الأربعة عشر كلّهم عليهم السلام يقرأون هذه الآية عند ولادتهم، فهم الكلمات التامات التي تمّت صدقاً وعدلًا لا مبدّل لكلماته، وقد مرّت الإشارة إلي أن نعت الكلمة بالصدق والعدالة يشير إلي حجج اللَّه فيما

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 257

يؤدّونه عن اللَّه وما هي عليه سيرتهم من الصدق والعدل والعدالة،

هذا كلّه بالنسبة إلي الجواب الأوّل وتفصيلاته.

الجواب الثالث: الآيات القرآنية

1- وهو ما جاء في قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمجْرِمِينَ» «1».

الاستكبار علي الآيات الوارد في هذه الآية المباركة نظير ما فعله إبليس، حيث أبي واستكبر أن يسجد لآدم، فكذّب بآية من آيات اللَّه تعالي، وذلك عندما قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» «2»

وقد استند في تكذيبه هذا إلي القياس الباطل وهو لا يعلم حقائق دين اللَّه تعالي، ولا يعلم أن جانباً آخر في آدم نوريّ يعلو علي النار هو الذي أهّله لذلك المقام، وليس الطين إلّا وجوده النازل المادّي.

ثم إن الآية المباركة ذكرت أثراً آخر من آثار التكذيب بالآيات الإلهية والاستكبار عليها، حيث قالت: «لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ»، ومن الواضح أن أبواب السماء إنما تفتّح حين الدعاء والعبادة والتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ وحين إرادة الزلفي والقرب، وكذلك لتصاعد الإيمان والعقيدة، كما يشير إليه قوله تعالي: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» «3»

، فهذه الآية المباركة تقول إن الذين يكذّبون بآيات اللَّه تعالي وأسمائه وكلماته ويستكبرون عنها كما فعل إبليس لا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 258

تفتّح لهم أبواب السماء، فلا يمكنهم أن يدعوا اللَّه أو يتقرّبوا إليه، ولا يستجاب لهم دعاؤهم ولا عباداتهم كالصلاة والصوم والحجّ.

والربط بين ترك الآية والاعراض عنها والاستكبار عليها وبين عدم القرب وعدم قبول الدعاء وعدم تفتّح الأبواب هو أن اللَّه عزّ وجلّ ليس بمادّي ولا بجسم، فلا يمكن أن يقابل أو يجابه فلا زلفي إلّابالآيات والإيمان بها والطاعة والخضوع لها والتوجّه بها إلي اللَّه عزّ وجلّ: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا»،

وقد مرّ في هذا الفصل وفي الفصل الثالث أن الآيات هم الحجج المصطفون، فلابدّ عند إرادة التوجّه إلي سماء الحضرة الإلهية بالدعاء والعبادة والازدلاف من التوجّه بهم والتوسّل بهم؛ لأن ذلك مفتاح فتح أبواب السماء، فهذه الآية تتشاهد وتتطابق مع الآية المتقدمة من قوله تعالي: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «1»

وأن الأسماء التي يُدعي بها في مقام الدعاء والفوز علي اللَّه هي الآيات التي لابدّ من الإيمان بها والخضوع والإقبال عليها والتوجّه بها إلي الحضرة السماوية.

وهذا المضمون هو ما ورد في الروايات المتواترة من أن ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في قبول الأعمال والعقائد، فإمامتهم عليهم السلام مقام من مقامات التوحيد في الطاعة، وهي شرط التوحيد وكلمة لا إله إلّااللَّه، فمن لا ولاية ولا طاعة له لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ له عملًا، كما هو الحال في إبليس، حيث لم يقبل اللَّه عزّ وجلّ أعماله، ولم يقم له وزناً وطُرد من جوار اللَّه وقربه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 259

إذن من لا يذعن بالواسطة والولاية لا يقبل له عمل، لأنه لا تفتّح له الأبواب، ولا يكون ناجياً يوم القيامة «وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمجْرِمِينَ».

2- وهو قوله تعالي: «وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ» «1»

، فهذه الآية جاءت في سياق واحد مع قوله تعالي:

«وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ

إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» «2»

، فالسياق الواحد في هذه الآيات دالّ علي أن ما فعله إبليس كان إنكاراً وظلماً لآية من آيات اللَّه تعالي، ودالّ أيضاً علي أن ثقل الميزان والقرب وقبول الأعمال إنما يتمّ بالخضوع للآيات والإيمان بها.

وليست الأصنام إلّاالوسائل والوسائط المقترحة.

3- قوله تعالي: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» «3»

، وتقريب الاستدلال بهذه الآية كالتقريب الذي تقدّم في الآيات التي سبقتها، ولا يخفي ما في التعبير ب (عنها) دون التعبير ب (عليها) من دلالة علي الاعراض والإنكار لوساطة الآيات الإلهية، وأنه موجب لبطلان الأعمال والخلود في النار.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 260

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هي الوسيلة التوسّل والوسيلة حقيقة العقيدة بالنبوّة والرسالة … ص: 260
اشارة

لقد قام أصحاب هذا الاتجاه المنكر لمبدأ التوسّل بتوجيه قوله تعالي:

«وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» «1»

، حيث فسّروا الوسيلة في هذه الآية بالطاعات والقربات والأعمال الصالحة التي يتقرّب بها العبد إلي ربّه.

وقد ورد في الأحاديث بأن العبد لا يتقرّب إلي اللَّه عزّ وجلّ إلّابالطاعة والعمل الصالح، فطوعانية العبد لربّه هي وسيلته الوحيدة، وليس بين اللَّه وبين خلقه قرابة وقرب إلّابالطاعة «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» فالجنّة يدخلها المطيع ولو كان عبداً حبشياً والنار يدخلها العاصي ولو كان سيّداً قرشيّاً.

الجواب عن الشبهة الرابعة: … ص: 260

كان حصيلة الشبهة الرابعة هو تمسّكهم بقوله تعالي: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» حيث فسّروا الوسيلة بالأعمال الصالحة من البرّ والتقوي والورع وسائر العبادات، وأن طوعانية العبد لربّه هي الوسيلة الوحيدة للنجاة والفوز بالجنة.

وفي المقدّمة نحن لا ننفي كون الأعمال الصالحة وسيلة من وسائل القرب إلي اللَّه عزّ وجلّ، ولكن نريد أن نقول هي أحد مصاديق الوسيلة وليست الوسيلة منحصرة بها، وذلك بمقتضي نفس زعمهم من أن الوسيلة هي الأعمال الصالحة والطاعات، حيث أن أعظم الأعمال الصالحة والطاعات هو الإيمان باللَّه ورسوله؛ إذ لا يقاس بالإيمان بقيّة الأعمال من الصلاة والصيام والحج وغيرها،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 261

بل إن بقية الأعمال لا تقبل ولا يثاب عليها الإنسان إلّابالإيمان، فإذا كان الإيمان أعظمها، والإيمان هو الإيمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر، بل إن الإيمان بالرسول صلي الله عليه و آله هو الهادي إلي حقيقة التوحيد، فيكون الإيمان بالرسول صلي الله عليه و آله من أعظم ما يتوسّل به إلي اللَّه عند الدعاء وعند العبادة وعند التوجّه إلي الحضرة الإلهية، فهذا يقتضي كون الرسول صلي الله عليه و آله أعظم وسيلة، لأن الإيمان إنما حاز هذا الشرف العظيم ومكان الوساطة والوسيلية إلي اللَّه تعالي

ببركة تعلّق الإيمان بالنبي صلي الله عليه و آله، إذ شرف المعرفة بالمعروف الذي تعلّقت به المعرفة، كما أن شرف العلم بالمعلوم الذي تعلّق به العلم، فذات المعلوم والمعروف أشرف من العلم والمعرفة المتعلّقة بهما، ومن شرف ذات المعلوم المعروف ترشّح شرف العلم والمعرفة، فهذا يقضي بالضرورة أن أعظم الوسائل هو النبي الأكرم صلي الله عليه و آله ومن ثم نُعت في القرآن الكريم بأنه رحمة للعالمين، وهذا ما أشارت إليه الأدلّة المتضافرة من أنه صلي الله عليه و آله صاحب الوسيلة الكبري والشفاعة العظمي.

ولكي تكون الاجابة واضحة لابدّ من التأمل في مفاد الآية المباركة، وذلك ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولي: ما هو المراد من الوسيلة؟ … ص: 261

لقد جاء التعبير في الآية الكريمة هكذا «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» ولم يقل اللَّه عزّ وجلّ (وابتغوه بالوسيلة)، وليس ذلك إلّاللتنبيه علي أن الذي يُبتغي ويُقصد لطلب الحوائج هو الوسيلة، التي تكون واسطة في الفيض بين العبد وربّه، ومعني الآية المباركة وابتغوا الوسيلة إليه، فالابتغاء والقصد والتوجّه بالوسيلة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 262

إلي اللَّه عزّ وجلّ، ولا تتحقّق البُغية إلي اللَّه تعالي إلّابالوسيلة؛ ولذا لابدّ من تحديد ما هو المراد من الوسيلة.

إن روايات الفريقين متّفقة علي أن الوسيلة مقام من المقامات المشهودة والسامية للنبيّ الأعظم صلي الله عليه و آله، وهي علي طوائف متعدّدة:

منها: الطائفة التي فسّرت الوسيلة بالمقام المحمود ومقام الشفاعة المختصّ بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، وذلك كقوله صلي الله عليه و آله: (سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّالعبد من عباد اللَّه وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة) «1»، وقد فهم بعض الشرّاح من هذا الحديث أن المقصود من الوسيلة فيه هي الشفاعة ذاتها

«2».

ولا شك أن الروايات نصّت علي أن الشفاعة هي المقام المحمود، فالشفاعة التي هي المقام المحمود لا تحلّ علي الشخص إلّابسؤال ذلك الشخص مقام الوسيلة للرسول الأكرم صلي الله عليه و آله.

ومنها: الطائفة التي يظهر منها أن مقام الوسيلة والشفاعة والمقام المحمود مناصب متعدّدة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، كقوله صلي الله عليه و آله: «من قال حين يسمع النداء اللّهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمّداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إلّاحلّت له شفاعتي يوم القيامة» «3»

، وظاهر هذه الرواية تغاير المقامات الثلاثة وهي الوسيلة والمقام المحمود والشفاعة.

ومنها: الروايات التي ذكرت أن مقام الوسيلة منبر من نور ينصب للنبيّ صلي الله عليه و آله،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 263

فعن النبيّ صلي الله عليه و آله في حديث له مع أمير المؤمنين عليه السلام، قال: «إذا جمع اللَّه الأولين والآخرين يوم القيامة وضع لي منبر بين الجنة والنار من نور، لذلك المنبر مائة مرقاة وهي الدرجة الوسيلة، ثم تحفّ بالمنبر النبيّون ثم الوصيّون ثم الصالحون ثم الشهداء، ثم يجاء إليّ، فيقال لي: يامحمّد قم فارقه، قال: فأرقي حتي أصير في أعلي مرقاة من المنبر- إلي أن قال صلي الله عليه و آله ثم يقال لك: إرقَ ياعليّ، فترقي ياأبا الحسن حتّي تصير أسفل منّي بمرقاة، فأناولك يميني وأقعدك علي جنبي الأيمن، وأقول: هذا الموقف الذي وعدني ربّي أنه يعطني فيك» «1».

وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: «وفوق قبّة الرضوان منزل يقال له الوسيلة، وليس في الجنّة منزل يشبهه وهو منبر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله» «2».

ومنها: الروايات التي ذكرت أن مقام الوسيلة مقام حظوة وحبوة للنبيّ صلي

الله عليه و آله، ويطول المقام بذكرها فلا حاجة إلي استعراضها، وبعض الروايات المتقدّمة فيها إشارة إلي ذلك.

ولا يوجد أي تنافي بين هذه الطوائف من الروايات، حيث أنها تثبت للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله مقاماً خاصّاً لا يدركه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وهذا المقام في جهة من جهاته يسمّي بالمقام المحمود وفي أخري يسمّي بالوسيلة وفي ثالثة يسمّي بالشفاعة، وهذا أيضاً لا يتقاطع مع كون مقام الوسيلة منبر من نور؛ لأن التعبير بذلك للدّلالة علي حظوة النبيّ صلي الله عليه و آله وحمد مقامه عند اللَّه عزّ وجلّ في ذلك اليوم العصيب، الذي يكون فيه كلّ الأنبياء علي جانب عظيم من الوجل

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 264

والشفقة والخشية، والكلّ يستغيث وانفساه، والنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في تلك الحال وجيه عند اللَّه عزّ وجلّ علي منبر من نور صاحب حظوة ومكانة دون باقي البشر، فالمنبر كناية عن الوجاهة والقرب والزلفي والواسطة والشفاعة وأنه يتوسّط به إلي اللَّه عزّ وجلّ ويستغاث به للنجاة من النار، فهو صاحب الشفاعة الكبري، وهو القائل: «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من امتي» «1».

النقطة الثانية: الرابطة بين الشفاعة والتوسّل … ص: 264

قلنا في النقطة السابقة أن المقام المحمود هو الشفاعة، كما نصّت علي ذلك الروايات «2»، وأشرنا أيضاً إلي أن الاستشفاع بشفاعة الشفيع والتوسّل بالوسيلة وجهان لمقام واحد، ونريد الوقوف قليلًا عند هذه الحقيقة، فإن تفرقة المتكلمين والفقهاء بين الشفاعة والتوسّل صحيحة من جهة وخاطئة من جهة أخري، وذلك لأن التوسّل والشفاعة وجهان لحقيقة واحدة لا ينفصلان عن بعضهما البعض، فالتوسل هو فعل صاحب الحاجة عند الشفيع، والشفاعة هي فعل الشفيع بينه وبين المشفوع عنده، فإذا لاحظنا جهة العلاقة والرابطة بين طالب الشفاعة والشفيع يقال

توسّل واستشفاع، وإذا لاحظنا نفس العملية ولكن من جهة الرابطة بين الشفيع والمشفوع عنده فيقال لذات تلك العملية شفاعة، فالوسيلة تتلوها الشفاعة والشفاعة يتلوها قضاء الحوائج وغفران الذنوب.

وإذا كان المسلمون قد أجمعوا علي ثبوت المقام المحمود والشفاعة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 265

الكبري للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله فهو يستلزم اجماعاً آخر وهو جواز التوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله وإن غفل شرذمة عن هذا اللازم، فإذا جازت الشفاعة من النبيّ صلي الله عليه و آله وهو فعل يقوم به بالإضافة إلي اللَّه عزّ وجلّ في حقّ أصحاب الحاجات فبالتالي سوف يكون التوسّل راجحاً ومشروعاً لا محالة؛ لعدم تصوّر انفكاك مشروعية الشفاعة عن مشروعية التوسّل؛ لأن التوسّل متعلّقه طلب الشفاعة فإذا كانت الشفاعة مشروعه كيف يكون طلب المشروع غير مشروع؟!، بل حيث إن معتقد الشفاعة للنبي صلي الله عليه و آله دين من أسس الإيمان فلا محالة يكون التوسّل معتقد ديني من أسس الإيمان أيضاً، بل حيث كانت الضرورة قائمة علي ثبوت مقام الشفاعة للنبي صلي الله عليه و آله فلا محالة الضرورة قائمة أيضاً علي أن التوسّل من أركان العبادات.

فالذهاب إلي الوسيط وطلب توسيطه في قضاء الحاجة توسّل وعمل الوسيط شفاعة، والشفع هو الضمّ، فيضمّ الوسيط جاهه إلي حاجة المتوسل فيقضيها المشفوع عنده، فالتوسّل من مقوّمات الدعاء والتوجّه للحضرة الإلهيّة.

إذن دليل التوسّل القول بمشروعية وضرورة الشفاعة بقول مطلق.

وبناء علي ذلك يكون عقد بابين مستقلّين للتوسل والشفاعة من المماشاة للغفلة التي وقع فيها أصحاب المقالة الجاحدة لعقيدة التوسّل، وإلّا فإن باب الشفاعة لا يمكن أن ينفك عن باب التوسّل؛ لأن التوسّل هو طلب التشفّع.

النقطة الثالثة: عموم تشريع الشفاعة … ص: 265

حاول أصحاب هذه المقالة تحديد نطاق الأدلّة الدالّة علي تشريع

شفاعة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، حيث قالوا تارة بأن الشفاعة في دار الدنيا لا تجوز إلّاإذا كان

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 266

النبيّ الأكرم حيّاً في هذه الدنيا، وأما بعد وفاته فلا مشروعية للشفاعة إلّايوم القيامة دون الشفاعة في الدنيا أو البرزخ، وقالوا أخري بأن متعلّق الشفاعة طلب الغفران من الذنوب، وليس طلب الحاجات الدنيويّة، كشفاء المريض وغيره.

أما المزعمة الأولي: من أن الشفاعة في الآخرة فقط أو مع حياة النبيّ صلي الله عليه و آله:

فهي مبتنية علي أن الشرك بالنصّ وعدم النصّ، مع أن الشرك من مدركات العقل وأحكامه، وهي غير قابلة للتخصيص، فإذا كان التشفّع شركاً فلابدّ أن يكون كذلك في جميع النشآت وسواء كان النبيّ صلي الله عليه و آله موجوداً في دار الدنيا أو بعد وفاته.

فالتفرقة لجوء منهم إلي النصّ وأن الشرك ليس له حدّ عقلي منضبط، وهو خلاف ما عليه علماء المسلمين، من أن الشرك إما بحثه عقلي أو عقلي ونقلي وليس هو نقلياً محضاً، هذا أولًا.

وثانياً: مع فرض أن دليل مشروعية الشفاعة نقلي، فلا دليل علي الاختصاص بيوم القيامة؛ لأن الآية مطلقة، فقوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ» شامل لما بعد وفاة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وهو صلي الله عليه و آله حيّ عند ربّه يرزق، مضافاً إلي قوله تعالي: «قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» فالنبيّ صلي الله عليه و آله ناظر للأعمال، والآية الكريمة مطلقة والمخاطب بها كلّ الأجيال، ولو بني علي اختصاص الأحكام التي تعلّقت بالرسول صلي الله عليه و آله علي خصوص حياته في دار الدنيا ونفي شمولها لحياته عند ربّه لاستلزم ذلك تعطيل جملة

الآيات والأحكام في الدين الحنيف، ولما قامت للدين قائمة، نظير قوله تعالي: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 267

فَانْتَهُوا» «1»

وقوله تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» «2»

وقوله تعالي: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «3»

وغيرها من الآيات والأحكام، فعلي زعمهم الواهي لابدّ أن تُخصّ هذه الآيات بخصوص حياته صلي الله عليه و آله في دار الدنيا دون حياته في عند ربّه.

وقد وردت روايات متضافرة تنصّ علي أن الأعمال تُعرض علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كلّ يوم أو كلّ يوم خميس أو جمعة، وأنه صلي الله عليه و آله يسمع السلام ويردّه، ويصلّي علي من يصلّي عليه.

فما ذكر من الاختصاص بيوم القيامة باطل عقلًا ونقلًا.

وأما المزعمة الثانية: وهي أن متعلّق الشفاعة طلب الغفران لا الحاجات الدنيوية:

فالجواب عنها:

أولًا: ما ذكرناه آنفاً من اطلاق الآية المباركة، فإن متعلّقها شامل للمسائل الدنيوية أيضاً ولا دليل علي التخصيص بما ذكروه.

وثانياً: إذا صحّت المقايسة التي زعموها فإن الحاجات الدنيوية أهون علي اللَّه تعالي من حاجات الآخرة، فكيف يعقل أن الشفاعة تنفذ فيما هو أكثر خطورة وهي الحياة الأبديّة، دون ما هو أقلّ خطورة وهي الحياة الدنيوية المنقطعة؟! وكيف يكون الثاني شركاً دون الأوّل؟!

ثم إن سيرة المسلمين وكذا الصدر الأول منهم تتنافي مع ما ذكره، حيث

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 268

أثبتت كتب المسلمين كما سيأتي- توسّل المسلمين بالنبيّ الأكرم بعد وفاته أيضاً، وسيرتهم إلي يومنا هذا جارية علي التوسّل في طلب حاجاتهم الدنيوية، ولا يقتصرون في ذلك علي طلب الحاجات الأخرويّة فقط.

وكذا ليس متعلّق الشفاعة غفران الذنوب والنجاة من النار فحسب، بل حتي في الرقيّ في المراتب والمقامات،

فالشخص يحتاج إلي الشفاعة لعدم الأهلية في عمله للصعود إلي مقام أعلي، كما ورد ذلك في توسّل الأنبياء بسيّد الرسل صلي الله عليه و آله، بل هو صلي الله عليه و آله يشفع أيضاً للأئمة المعصومين عليهم السلام لرفع مقامهم ودرجتهم إلي مقامه ودرجته صلي الله عليه و آله.

إذن متعلّق الشفاعة وسيع يشمل النجاة من النار وغفران الذنوب ورفع المقامات وقضاء الحاجات وغيرها، فالشفاعة بإذن اللَّه تعالي متعلّقها مطلق موارد فيض الباري عزّ وجلّ.

وثالثاً: ما ورد من وصف النبيّ موسي وعيسي عليهما السلام بأنهما وجيهان عند اللَّه عزّ وجلّ، كما في قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَي فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا» «1»

، وكذا قوله تعالي: «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» «2»

، وهذا البيان ليس خاصاً بموسي وعيسي عليهما السلام، بل هو شامل علي أقل تقدير لأنبياء أولي العزم، خصوصاً سيّد المرسلين وخاتمهم وأفضلهم محمّد صلي الله عليه و آله وأهل بيته الذين أورثوا علم الكتاب

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 269

كلّه، بل قد أشير إلي ذلك في تشريع القبلة، وأنها رغم كونها وجهاً للَّه تعالي يتّجه إليه المصلّي في اتجاه استقباله في الصلاة، إلّاأن الغاية منها هي الإنقياد والخضوع لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله والولاية له، وهو يؤدّي للأوبة للَّه تعالي، حيث قال تعالي: «وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» «1»

وقال تعالي أيضاً: «أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» «2»

وقال تعالي: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ» «3»

، وللتعبير بالوجيه مدلولان التزاميان عقلي ونقلي:

أما العقلي؛

فلأن اللَّه عزّ وجلّ منزّه عن الجسمية والمقابلة والمجابهة المادّية، فلابدّ من وجه يتوجّه به إليه، فالوجيه معناه هو وجه اللَّه الذي يتقرّب به إليه وآيته الدالّة عليه، التي لابدّ أن تُوسّط وتُشفّع في التوجّه.

وأما النقلي؛ فهو ما ورد من أن زكاة الوجاهة الشفاعة في الخيرات.

إذن الشفاعة والوساطة مدلول التزامي عقلي ونقلي لمفهوم الوجاهة، فالوجيه هو الشفيع والوسيلة والواسطة بين العبد وربّه.

ومقتضي إطلاق كون الأنبياء عليهم السلام وجهاء عند اللَّه عزّ وجلّ هو كونهم شفعاء في الخيرات وقضاء الحوائج الدنيوية والأخروية، ولا تختصّ وجاهتهم وشفاعتهم بغفران الذنوب فقط.

ومعني ذلك أيضاً أن الأنبياء وجهاء عند اللَّه وشفعاء في كلّ الأزمان والأدوار، من دون اختصاص بيوم القيامة أو قبل وفاة النبيّ، وذلك لإطلاق الآيات الدالّة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 270

علي الوجاهة التي تلزمها الشفاعة عقلًا ونقلًا.

والحاصل:

إن الوسيلة في الآية التي ذكروها هو مقام الشفاعة الكبري للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، واتّضح أن الوسيلة والشفاعة وجهان لمقام واحد، واتّضح أيضاً أن الشفاعة والتوسّل ركن من أركان الدين قائم في الدنيا والآخرة، سواء كان النبيّ حيّاً في دار الدنيا أو عند ربّه تعالي بعد وفاته صلي الله عليه و آله، وهكذا الشفاعة منصوبة في ديانة الإسلام لطلب الحوائج الدنيوية وغيرها.

وممّا يبرهن علي عموم شفاعة النبي صلي الله عليه و آله لكلّ النشآت والعوالم ولعموم الأمور ما مرّ في قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «1»

، حيث مرّ في الفصل الثالث أن الآية تبيّن مشارطة اللَّه ومواثقته علي النبيين في إعطائهم

مقام النبوة والرسالة والمقامات الغيبية أنهم إنما يستأهلوها ويستحقّوها إذا آمنوا بخاتم النبيّين والتزموا بنصرته واتباعه وأقرّوا علي أنفسهم بذلك، فالآية تبيّن أن سيد الأنبياء صاحب الوسيلة لجميع المخلوقات، بل ولأشرف المخلوقات وهم الأنبياء والرسل، وأنهم إنما نالوا المقامات الكبري الغيبية من النبوّة والرسالة والحكمة بالتوسّل بذيل ولاية سيد الأنبياء وأهل بيته المعصومين، مع أن النبي صلي الله عليه و آله لم يُخلق بدنه حينذاك، وإنما خُلق نوره وأنوار أهل بيته قبل خلق السماوات والأرض وخلق الأنبياء، كما أشارت إلي ذلك

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 271

سورة النور والروايات من الفريقين، حسب ما تقدّم في الفصل الثالث.

فالآية ترصد أعظم ملحمة في الخلقة والخليقة لأعظم توسّل بأعظم متوسّل به لأعظم حاجة، وكفي بذلك بشارة للمؤمنين بهذا الركن العظيم في الدين، ونذارة للجاحدين.

وأخيراً نقول:

إذا كانت الأعمال كما قالوا تُزلف وتُقرّب العبد إلي اللَّه عزّ وجلّ وهي فيها ما فيها من عدم الخلوص وخلطها بالصالح والطالح، فكيف ظنك بمقام سيّد الرسل صلي الله عليه و آله؟!

فالعمل موجود مخلوق وكذا النبيّ صلي الله عليه و آله، ولكن لا قياس ولا نسبة بينهما في الوجاهة والقرب إذا توسّل بهما العبد.

الشبهة الخامسة: التوحيد الإبراهيميّ يأبي التوسّل بغير اللَّه … ص: 271
اشارة

وذلك ما ورد في الحديث أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار (عرض له جبرئيل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا وأما من اللَّه فبلي) «1»، (قال جبرئيل: فسل ربّك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال اللَّه عزّ وجلّ: يانار كوني برداً وسلاماً علي إبراهيم) «2» فالنبيّ إبراهيم عليه السلام في هذا الحديث يحصر التوجّه في الحاجات إلي اللَّه عزّ وجلّ ويرفض كلّ واسطة ولو كانت بمنزلة جبرئيل عليه السلام، وهذا هو النفس التوحيدي الصحيح من

مؤسّس

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 272

التوحيد ومكسّر الأصنام ومجاهد الوثنية إبراهيم عليه السلام، إذ لم يوسّط حتي جبرئيل في طلب حاجته.

إذاً لابدّ من نفي الشرك في الواسطة وطلب الحاجة؛ إذ لا حجاب بين اللَّه وبين خلقه، ولم يتّخذ اللَّه تعالي أصناماً ولا أحجاراً ولا أشخاصاً ليتوجّه بها إليه.

الجواب عن الشبهة الخامسة: … ص: 272

وهو ما يتعلّق بقصة إبراهيم عليه السلام عندما أُلقي في النار، وما جري بينه وبين جبرئيل، حيث أن جبرئيل عليه السلام تدارك إبراهيم وهو في حال الهويّ في النار، وهي حالة عصيبة جدّاً، ولكن مع ذلك عندما عرض جبرئيل عليه السلام عليه قضاء حاجته وتخليصه من محنته، قال عليه السلام: (علمه بحالي يغني عن سؤالي)، فقالوا إن نفس عدم سؤال إبراهيم عليه السلام من جبرئيل معناه أن السؤال والاستغاثة بغير اللَّه تعالي غير جائزة.

الردّ الأول: إن أي حادثة من الحوادث تتضمّن دائماً ملابسات تحتفّ بها لابدّ من معرفتها؛ لمدخليتها في استيضاح سياق تلك الحادثة، وفي المقام مسائلة جبرئيل عليه السلام للنبيّ إبراهيم عليه السلام من أجل امتحانه وابتلائه وتفقّد رسوخ إيمانه وطمأنينته ورباطة جأشه؛ ولذا قال له: (أما إليك فلا) ليبيّن له أنه ليس في مقام طلب الحاجة والخوف والهلع وإنقاذ الموقف وأنه مطمئن النفس ثابت الإيمان متوكّل علي ربّه.

ويعزّز هذه الدعوي قول إبراهيم عليه السلام لجبرئيل عليه السلام: (علمه بحالي يغني عن سؤالي) مع أن السؤال والدعاء مرغوب فيه ومحبّب عند اللَّه عزّ وجلّ، وقد حثّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 273

القرآن الكريم في آيات عديدة علي السؤال والدعاء وطلب قضاء الحاجة من اللَّه تعالي، وقد توعّد اللَّه تعالي المستكبر علي عبادته ودعائه باللسان والقول.

إذن الدعاء من الأمور المرغوب فيها والمأمور بها، ومن الواضح المتّفق عليه أن الرواية في

المقام لا تريد أن تقول أن الدعاء باللسان أمر مرجوح ومرغوب عنه، بل إن الدعاء وطلب الحاجة بالقول واللسان من الآداب الإلهية، وقد قال اللَّه تعالي لنبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا» «1»

وحاشا للنبيّ إبراهيم عليه السلام أن يخرج عن أعظم الآداب الإلهية ولا يتقيّد بها؛ إذ الدعاء أعظم العبادات وروحها.

فهذا شاهد بيّن دامغ علي أن كلام إبراهيم عليه السلام بحسب السياق في مقام آخر، وهو مقام الامتحان للثبات علي الإيمان والطمأنينة به.

فأراد إبراهيم عليه السلام باكتفائه بعلم اللَّه عزّ وجلّ بحاله أن يبيّن لجبرئيل عليه السلام أنه ليس علي وجل واضطراب، ويظهر له الثبات والحزم الذي هو عليه في الحقيقة والواقع.

ودعاؤه عليه السلام في خصوص ذلك الظرف والمقام قد يكون كاشفاً عن الوجل والتزلزل وعدم الطمأنينة، فهو عليه السلام لكمال ثباته وتوكّله علي اللَّه تعالي أظهر ما هو عليه من رباطة الجأش والحزم وقوّة الإيمان.

فصدر الجواب وذيله في هذا المقام الذي ذكرناه.

الردّ الثاني:

قد يقال هنا أن إبراهيم عليه السلام لم يستنجد بجبرئيل عليه السلام ولم يسأله لأنه أفضل منه، وذلك إن مقام أنبياء أولي العزم أفضل من مقام الملائكة الذين أسجدهم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 274

وأطوعهم لآدم، وقد ورد في روايات الفريقين أن جبرئيل عليه السلام في مواطن عديدة لم يتقدّم علي آدم لكونه مسجود الملائكة، ففي هذه الحالة يكون مقام السائل أرفع شأناً من مقام المسؤول، ونحن محلّ كلامنا فيما إذا كان السائل يتقرّب بواسطة المسؤول ويتوسل به إلي اللَّه عزّ وجلّ، وإذا كان السائل أقرب مقاماً من المسؤول، فلا معني للتوسّط والتشفّع والزلفي.

الردّ الثالث: أنه ينقض عليهم بموارد: … ص: 274

منها: أن الجاحدين للتوسّل يقرّون بأن الضرورة قائمة في الدين- كما تقدّم- علي ثبوت الشفاعة الكبري

لسيد الأنبياء يوم المعاد، وأنه يستشفع به صلي الله عليه و آله للنجاة الأبدية، فإذا كان الاستشفاع شركاً- حسب زعمهم- وخلاف منهج التوحيد الذي هو ملّة إبراهيم الحنيف فكيف يسمح الباري بوقوعه يوم القيامة، ويُبشر به نبيّه، وأنه يعدّه الباري مقاماً محموداً؟!

ومنها: ما تقدّم من استشفاع آدم بسيد الأنبياء، فهل يظن بنبي اللَّه وصفوته مجانبة طريق التوحيد؟!

الشبهة السادسة: التوسّل يعني التفويض وعجز اللَّه تعالي … ص: 274
اشارة

قد يطرح هنا إشكال حول التوسّل بالوسائط، وهو دعوي أن الاعتقاد بالوسائط والتوسّل بها لاستدرار الفيض الإلهي قد يوجب اعتقاد العجز في قدرة اللَّه تعالي، ومما لاشك فيه أن الباري عزّ وجلّ واجب بالذات وغني عن العالمين، فلابدّ من رفض الوسائط في التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 275

وبعبارة أخري: إن السؤال والتوسّل والتوجّه إلي غير اللَّه تعالي يستبطن التفويض والغلو وبالتالي يؤدّي إلي الشرك؛ لأن التوسّل يتضمّن إسناد بعض الصلاحيات الإلهية إلي الوسائل، وهو يعني إثبات العجز إلي قدرة الباري تعالي وهو التفويض والغلو الباطل.

الجواب عن الشبهة السادسة: قصور الجاحدين للتوسّل عن معرفة التوحيد في الأفعال: … ص: 275

في مقام ردّ هذه الشبهة نجيب بعدّة أجوبة:

الجواب الأول: إن اللَّه عزّ وجلّ إذا أقدر مخلوقاً من المخلوقات علي بعض الأمور، فهو لا يعني سلب القدرة عنه تعالي في تلك الأمور، ولا يعني أيضاً عزله عن صفاته التي منها الصفات التي أعزاها إلي كلماته ووسائطه، فلا تجافي ولا عزلة في البين؛ لأن التجافي والعزلة من أحكام المادّة.

إذن الباري تعالي لا يتجافي ولا ينعزل عن القدرة التي أقدر بعض الموجودات عليها، بل هو أقدر من تلك الوسائط علي ما أقدرها عليه.

ويقول الإمام زين العابدين عليه السلام في هذا المقام: «إن اللَّه تبارك وتعالي لا يطاع باكراه ولا يعصي بغلبة ويهمل العباد في الهلكة، ولكنه المالك لما ملّكهم، والقادر لما عليه أقدرهم» «1».

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في وصفه للَّه عزّ وجلّ: «لا تشبهه صورة ولا يحسّ بالحواس ولا يقاس بالقياس، قريب في بعده بعيد في قربه، فوق كلّ شي ء ولا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 276

يقال: شي ء تحته، وتحت كلّ شي ء ولا يقال: شي ء فوقه، أمام كلّ شي ء ولا يقال له: أمام، داخل في الأشياء لا كشي ء في شي ء داخل، وخارج

من الأشياء لا كشي ء من شي ء خارج، فسبحان من هو هكذا، ولا هكذا غيره، ولكلّ شي ء مبتدأ» «1».

والحاصل: إن أقدار اللَّه عزّ وجلّ وكّل عطية إلهية يجود بها علي مخلوقاته ليس تمليكها تمليكاً عزلياً وبنحو التجافي، وإنما هو تمليك قيّومي إحاطي، فهو عزّ وجلّ بكلّ شي ء محيط وقيّوم علي كلّ شي ء، وهو المالك لما ملّكهم والقادر لما عليه أقدرهم، بل إن التمليك بعينه مخلوق من المخلوقات والمُعطي والعطية كلّها قائمة باللَّه تعالي حدوثاً وبقاءً، فكيف يستقل المخلوق في فعله وهو محتاج في ذاته ومفتقر إلي قيوميّة الباري تعالي؟!

وهذا يعني أن ذات المخلوق وفعله وتمكينه وتمليكه وإقداره علي بعض الأمور كلّها بحول اللَّه وقوته، ولا يخرج عن حيطة قيوميّته، فلا مجال للتفويض العزلي في عالم الخلقة والامكان، وليست الوسائط إلّامجار لفيض اللَّه عزّ وجلّ وقدرته؛ لأجل عجز بعض القوابل عن التلقّي عن اللَّه تعالي مباشرة.

الجاحدين للتوسّل بنوا جحودهم علي التفويض الأكبر: … ص: 276

الجواب الثاني: إن هذه الشبهة التي ذكروها تستبطن التفويض والغلو في المخلوق؛ لأنها مبتنية علي دعوي أن المخلوق مستقلّ عن خالقه في الوجود بقاءً، وأن اللَّه تعالي عندما ملّك وأقدر بعض الموجودات المادّية علي بعض

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 277

الأفعال الحياتية اليوميّة، كقدرة الشخص علي تحريك أعضائه مثلًا باختياره، انعزلت قدرته عن تلك الأفعال، فإنهم في شبهتهم المذكورة افترضوا أن إقدار اللَّه عزّ وجلّ وتمليكه بعض الأفعال لبعض المخلوقات وأنها استقلال للمملوك عن المالك، كاستدرار الفيض الإلهي عن طريق الوسائط تفويض وغلو في تلك المخلوقات، وحيث أنه مما لا ريب فيه أن اللَّه تعالي- كما هو المشاهد حسّاً والمعلوم وجداناً- أقدر الموجودات المادّية علي الكثير من الأفعال التي نراها يومياً، فإنه يقتضي اعتقادهم بمقالة المعتزلة التفويضية المغالية، وهي أن المخلوق محتاج إلي الخالق

حدوثاً لا بقاءً، وأن اللَّه تعالي بعد أن خلق الموجودات انعزلت قدرته عنها في البقاء والعياذ باللَّه-.

ولا فرق بين فعل وفعل من الناحية العقلية، فإذا كان التوسّل وجعل الوسيلة والشفاعة لبعض المخلوقات يوجب التفويض العزلي، فكذلك إقدارهم علي أفعالهم الحادثة اليومية لابدّ أن يكون أيضاً محكوماً بقانون التفويض العزلي، وأن اللَّه تعالي انعزل عن مخلوقاته بعد أن أوجدها وأقدرها وملّكها لأفعالها.

ولا شك أن هذا التفكير مبنيّ علي الموازين الحسّية المادّية، ودعوي الفرق بين الأفعال الدنيوية الصغيرة والأفعال التدبيرية الخطيرة، كتدبير السماوات والأرض، وإيصال فيض اللَّه تعالي إلي الموجودات المادّية الدانية في الوجود، حيث آمنوا ببطلان التفويض بجعل وسائط في الفيض، وصحّحوا مقولة التفويض في صغائر الأمور والأفعال المادية الدنيويّة غير الخطيرة.

مع أن موازين بطلان التفويض موازين عقلية لا يفرق فيها بين الأفعال الصغيرة والخطيرة؛ لأن التفويض يوجب الشرك وهو باطل علي جميع

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 278

الأحوال.

ونحن نقول: إن المخلوق لا يستقلّ بذاته وفعله عن الباري تعالي حدوثاً وبقاءً، ولا يفعل المخلوق فعلًا أيّاً كان حجمه وخطورته إلّابإقدار اللَّه وتمكينه وبحوله وقوته بدءاً واستدامة.

ولو كان أصحاب هذه الشبهة يرفضون فكرة التفويض مطلقاً ويوحّدون في الخلقة حدوثاً وبقاءً لما حصلت لهم هذه الشبهة، لأن اللَّه تعالي لا تنحسر قدرته عن المخلوق في أصل خلقته وبعد خلقته، فهو دائماً يستمدّ وجوده وبقاءه من الفيض والمدد الإلهي، وهم أرادوا أن ينكروا التوسّل، وهو فعل من الأفعال للزوم التفويض، فوقعوا فيما هو أعظم وهو التفويض في أصل وجود المخلوقات من حيث البقاء فضلًا عن أفعالها، مع أن اللَّه تعالي دائم الفيض علي البريّة، والمخلوق في كلّ آن من آنات وجوده محتاج إلي فيض باريه، لا يستقلّ عنه في وجوده ولا

ينادده في فعله؛ إذ الباري قيّوم علي وجود المخلوق وأفعاله بنحو الأمر بين الأمرين، فلا ننفي المخلوقات وأفعالها كما فعل ذلك بعض جهلة الصوفية، ولا نعزل قدرة اللَّه تعالي عن مخلوقاته كما فعل المفوّضة، بل نقول كما قال اللَّه عزّ وجلّ: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَي» «1».

الجواب الثالث: أن الجاحدين للتوسّل حيث كانوا عبّاد المذهب الحسّي المادي من حيث يشعرون أو من حيث تشبّع نفسياتهم وذهنهم بذلك، حيث يبنون علي أن كلّ فعل حسّي هو فعل للمخلوقات، وكلّ فعل وراء الحسّ فهو فعل لاهوتي إلهي، أو أن الأفعال الصغيرة الحجم هي فعل للمخلوقات أما

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 279

الأفعال الكبيرة فهي فعل إلهي، وعلي هذا الميزان يكون إماتة الموتي لا يصح إسنادها إلي الملك الموكّل وهو عزرائيل عليه السلام، لا سيما وأن الاماتة لا تقتصر علي بني البشر فقط، بل تشمل جميع بني الجنّ وجميع النباتات، بل وجملة الملائكة، فهذه القدرة بهذا الحجم كيف تسند وتعزي إلي الملك عزرائيل؟ مع أن قدرة اللَّه تعالي أنفذ فيما أقدر عزرائيل عليه، وكذلك ميكائيل الموكّل بتقسيم الأرزاق وتدبيرها لكلّ الكائنات الحيّة علي وجه الأرض، وكذلك جبرئيل الموكّل بالبطش والنقمة الإلهيّة ونشر العلم علي الكائنات المدركة، وإسرافيل الموكّل بالإحياء وغير ذلك من عظائم الأفعال، فإنه علي منطق هؤلاء الجاحدين تكون قدرة اللَّه معزولة عن تلك الأفعال كما توهّمه هؤلاء، وأنّ هذه الأفعال هي صلاحيات إلهيّة لا تقبل الاسناد لغير اللَّه.

فتبيّن أن الضابطة في كون الفعل إلهيّاً هو صدوره عن الفاعل بمعزل عن قدرته غيره، ومن ثمّ لا يصحّ توهّم استقلال المخلوق في الفعل ولو كان حقيراً صغيراً؛ إذ لو استقلّ لكان فاعلًا فعلًا إلهيّاً.

الشبهة السابعة: إيجاد المخلوقات الإمكانية كلّه ابداعيّ بلا واسطة … ص: 279
اشارة

الشبهة السابعة: إيجاد المخلوقات الإمكانية

كلّه ابداعيّ بلا واسطة

قالوا في المقام لِمَ لا يكون فعل اللَّه تعالي دائماً إبداعياً بكن فيكون بلا أي واسطة أو وسيلة؟ وهذا من مظاهر القدرة والهيمنة الإلهية، بخلاف القول بالأفعال غير الابداعية، فهي تستبطن القول بعجز اللَّه تعالي واحتياجه إلي الأسباب في عملية الخلق والايجاد.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 280

الجواب عن الشبهة السابعة: … ص: 280

ويُجاب عن هذه الشبهة بنفس الجواب السابق، ونضيف إليه بعض الأجوبة الأخري:

الجواب الأول: لا ريب أننا نشاهد في عالم الخلقة الامكانية أفعالًا لبعض المخلوقات بل موجودات مخلوقة غير ابداعية، كما نصّ علي ذلك القرآن الكريم في آيات عديدة كما سيأتي- وأن اللَّه تعالي كان عرشه علي الماء، ثم خلق السماوات والأرض، ثم خلق من الأرض النباتات والزرع، ثم خلق من الطين البدن الانساني، وخلق الجنّ من نار السموم، وخلق من الماء كلّ شي ء حيّ، وغير ذلك من المخلوقات غير الإبداعية، التي توجد بعملية التوليد والتوالد بين الأسباب والمسبّبات، وبناءً علي ما ذكروه من الشبهة، من أن كلّ فعل غير ابداعي، فهو مستبطن للعجز والحاجة إلي الوسيلة والأسباب ويكون اسناد تلك المخلوقات غير الابداعية إلي اللَّه تعالي إسناداً للعجز والحاجة إلي اللَّه عزّ وجلّ، وإن لم نُسند تلك المخلوقات إلي اللَّه تعالي نقع في معضلة الشرك في الخالقية وهو شرك أعظم؛ لأن شطراً وافراً من المخلوقات كالموجودات المادّية في أصل وجودها فضلًا عن أفعالها يتمّ تخليقها عن طريق الأسباب والوسائط لا بنحو الابداع، فإن اسندناها إلي الباري تعالي علي زعمهم- يلزم نسبة العجز إلي الخالق، وإن لم نسندها إليه عزّ وجلّ يلزم القول بالشرك في الخالقية وخروج تلك الموجودات عن حيطة قدرته تعالي.

فالصحيح: إن اللَّه تعالي خالق كلّ شي ء سواء كان بالابداع أو التخليق، والسببيّة لا توجب الشرك ولا

نسبة العجز إلي اللَّه تعالي؛ لأن المخلوق الذي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 281

يكون واسطة ووسيلة في تخليق بعض المخلوقات لا يخرج عن حيطة القدرة الإلهية، فهو بتمام شراشر وجوده مفتقر إلي باريه في الحدوث والبقاء وفي فعله وأصل وجوده، وإذا صار الماء مثلًا واسطة في تخليق كلّ شي ء حيّ لا يعني عجز الباري، لأن الماء بتمام وجوده مفتاق إلي خالقه ولا يستغني في فعله عنه، ففعل الماء فعل اللَّه تعالي، والماء مجري الفيض وسبب إعداديّ لخالقية اللَّه عزّ وجلّ.

ثم إن البارئ والمصوّر من أسماء اللَّه تعالي، والبَرء عملية تحويل وإيجاد وإيجاب شي ء من شي ء آخر، ثم بعد البرء تأتي عملية تشكيل الصورة، وهذه كلّها دائرة الموجودات غير الابداعية، وهي تحت هيمنة الأسماء الإلهية، كالبارئ والمصوّر ولا تخرج عن حيطة قدرته عزّ وجلّ.

سبب جحود التوسّل القصور في معرفة كنه ذوات المسبّبات والأسباب: … ص: 281

الجواب الثاني: إن الاحتياج إلي الأسباب والوسائط ليس لعجز في الباري تبارك وتعالي، بل لعجز وعدم قابلية في ذات الممكن، وذلك لأن بعض الموجودات الممكنة لا يمكن أن تفرض لها شيئية إلّابعد وجود موجودات أخري سابقة عليها، فالجسم مثلًا لا يمكن أن يخرج إلي الوجود إلّامن المادة؛ لعدم قابلية الجسم إلّاأن يكون متقوّماً بالمادّة، واللَّه عزّ وجلّ علي كلّ شي ء قدير، ولا شيئية للجسم قبل المادّة لكي تتعلّق به القدرة؛ إذ اللّاشيئية عدم وبطلان وعجز وفقدان، ولا معني لأن تتعلق القدرة الإلهية بالعجز والبطلان.

نعم إذا فُرض كونه شيئاً بواسطة السبب تتعلّق به القدرة حينئذٍ، فالأشياء التي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 282

هي ذوات أسباب ذواتها متقوّمة ذاتياً قوامياً بنيوياً وهوية بتلك الأسباب، فنفي فرض الأسباب نفي لأصل ذواتها، فيرجع إلي التناقض، لا للعجز في قدرة الباري تعالي، كمن يريد أن يفترض الجسم بلا أن يكون له أبعاد

ممتدّة، فهؤلاء تخيّلوا أن الأسباب والوسائط منحازة عن أصل ذوات الأشياء المخلوقة في الدرجات المتوسّطة والنازلة من عوالم الخلقة، فيرجع جحودهم للوسائل إلي الجهل بحقائق المخلوقات، ولو كان وجود الأسباب والوسائط يعني العجز لكانت سنّة اللَّه تعالي في تدبير الخلقة بتوسّط الملائكة عجز في الساحة الإلهية والعياذ باللَّه-، لا سيّما وأن القرآن الكريم يسند جملة أفعال الخلقة وعظائم الأفعال إلي الملائكة.

الجواب الثالث: وهو عبارة عن الشواهد والطوائف القرآنية الدالّة علي وقوع التخليق من اللَّه تعالي عبر الوسائط من ملائكة ورسل وغير ذلك، وأن نظام الخلقة علي نحوين: إبداعيّ وتخليقيّ، كما قال عزّ وجلّ: «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» «1».

وإليك بعض تلك الطوائف:

الطائفة الأولي: آيات الإماتة وتوفّي الأنفس، وقد أسند التوفّي فيها إلي اللَّه عزّ وجلّ وإلي الملائكة وإلي ملك الموت خاصّة:

الاسناد الأول: إسناد توفّي الأنفس إلي الملائكة.

1- قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 283

2- قوله تعالي: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ» «1».

3- قوله تعالي: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «2».

4- قوله تعالي: «حَتَّي إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ» «3».

5- قوله تعالي: «حَتَّي إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ» «4».

6- قوله تعالي: «لَوْ تَرَي إِذْ يَتَوَفَّي الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ» «5».

7- قوله تعالي: «فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ» «6».

8- قوله تعالي: «وَلَوْ تَرَي إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَي اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» «7».

وغير ذلك من الآيات المباركة التي نلاحظ في مجموعها أن اللَّه سبحانه وتعالي قد نسب وأسند وفاة

الأنفس إلي الملائكة من باب التوسيط، مع أن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 284

المميت من أسماء اللَّه تعالي ولا منافاة في ذلك، ولا يلزم منه العجز؛ لأن الملك بكلّ وجوده وأفعاله قائم باللَّه تعالي ومفتقر إليه حدوثاً وبقاءً.

وفي الآيات الثلاثة الأخيرة يسند اللَّه عزّ وجلّ العذاب إلي الملائكة وفي الوقت ذاته ينسب اللَّه عزّ وجلّ العذاب والتعذيب إلي نفسه ولا منافاة في ذلك لما تقدم.

الاسناد الثاني: وهي الآيات التي يسند اللَّه عزّ وجلّ فيها التوفّي إليه مباشرة:

1- قوله تعالي: «اللَّهُ يَتَوَفَّي الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا» «1».

2- قوله تعالي: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ» «2».

3- قوله تعالي: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ» «3».

4- قوله تعالي: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «4».

وكما أسلفنا لا تنافي بين الاسناد الأول والثاني وكذلك الثالث الآتي، وكلّ منها اسناد حقيقي، لأن الملائكة لا حول لهم ولا قوة إلّاباللَّه تعالي.

ويدلّ علي هذه الطولية في الاسناد السياق الواحد في آيتي سورة النحل المتقدّمتين، حيث أسند في أحدهما التوفّي إلي اللَّه تعالي وفي الأخري إلي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 285

الملائكة.

الاسناد الثالث: إسناد التوفّي إلي ملك الموت:

قوله تعالي: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» «1».

فإسناد الإماتة إلي ملك الموت والرسل في وقت واحد يعني أن بقيّة الملائكة أعوان لملك الموت، تحت هيمنته وقدرته، كما جاء ذلك في روايات الفريقين.

والحاصل: أن برنامج الإماتة لكلّ ذي روح تحت تدبير وإدارة ملك الموت، وهو يدير ذلك البرنامج التكويني عن طريق رسله وأعوانه الذين هم تحت إمرته وسلطانه وقدرته، وهو في الوقت ذاته تحت

سلطان اللَّه عزّ وجلّ وقدرته، وافتقاره، واحتياجه إلي اللَّه عزّ وجلّ حدوثاً وبقاءً أشدّ من احتياج الملائكة من أعوانه إليه بما لا يقاس.

ومن هذا البيان يتّضح أن إسناد فعل إلي الملائكة لا يعني عدم إسناده إلي الباري تعالي، وهكذا إسناد فعل إلي الملائكة لا يعني عدم إسناده إلي ذات أخري شريفة تهيمن علي الملائكة، وتكون الملائكة رسلًا وأعواناً لها وتحت سلطانها، كملك الموت الذي يدبّر الملائكة بإقدار اللَّه تعالي وتدبيره، ووراء ملك الموت مخلوقات أخري أشرف منه تدبّره وتدير شؤون عالم الإمكان بإذن اللَّه تعالي وهم خلفاء اللَّه تعالي.

الطائفة الثانية: وهي الآيات التي صرحت بإيكال بعض الأفعال والأمور التدبيريّة إلي بعض المخلوقات.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 286

1- قال تعالي: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» «1».

2- وقال عزّ وجلّ: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» «2».

وهذا التوكيل المذكور في الآيتين الكريمتين ليس علي نسق إيكال مخلوق إلي مخلوق آخر؛ لأنه في باب الوكالات الاعتبارية والقانونية هناك نوع من الاستقلال للوكيل عن الموكّل في الفعل، وفيه نوع من أنواع التفويض العزلي وإن لم يكن تفويضاً واستقلالًا وانعزالًا تاماً؛ لإمكان عزله في كلّ آن آن، وأما في توكيل اللَّه تعالي بعض المخلوقات فليس هو توكيلًا وتفويضاً عزلياً تنحسر فيه قدرة الباري عن الفعل الموكّل فيه، لأنها وكالة افتقار وتقوّم فعل الوكيل بالموكّل، فاللَّه تعالي أقدر بعض مخلوقاته وأوكل لهم بعض الأمور بلا انعزال عمّا وكّلهم فيه، بل هو تعالي فيما أقدرهم عليه أقدر بما لا يتناهي من القدرة، لأن وجودهم فضلًا عن فعلهم متقوّم بذات الباري تعالي حدوثاً وبقاءً، وهو الحيّ القيّوم الذي به قامت السماوات والأرض.

ثم إن التوكيل الذي ورد في سورة

الأنعام توكيل لدنّي لجماعة من الانس، وهذه من التعابير القرآنية الدالّة علي وجود الارتباط اللّدني بين اللَّه تعالي ومجموعة من البشر، لم يكفروا باللَّه عزّ وجلّ طرفة عين.

الطائفة الثالثة: وهي الدالّة علي توسيط بعض المخلوقات في الخلق:

1- قوله تعالي: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 287

مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الَّثمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ» «1»

، فإخراج الثمرات ليس إبداعيّ بل توسيطيّ، فالباري تعالي يُخرج بواسطة الماء الثمرات، والخالق هو اللَّه تعالي وليس الماء إلّاوسيطاً في جريان الفيض الإلهي.

2- قوله تعالي: «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْ ءٍ» «2».

3- قوله تعالي: «وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» «3».

4- قوله تعالي: «وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» «4».

وقد قرّر الحكماء وجود حياة نباتية، كما أكّدت ذلك العلوم المادّية، وهذه الحياة والإحياء يحصل بواسطة الماء ولو إعداداً، فكيف يستعظم ذلك علي من هو أشرف من الماء وأعظم عند اللَّه تعالي؟!

5- قوله تعالي: «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ» «5».

فالطهارة التي هي أمر معنوي ونوري يحصل من اللَّه تعالي بواسطة الماء؛ لأنها ليست من الأفعال الإبداعية بل التخليقية.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 288

6- قوله تعالي: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَي الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» «1».

والعرش هو القدرة الإلهية، فقدرته تعالي علي الماء، والماء واسطة في فيض القدرة، علي الاختلاف في المراد من الماء في الآية الكريمة.

فالقوابل محدودة ونشأة الماء هي الواسطة في تقبّل الفيوضات الإلهية.

7- قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا

مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ» «2».

8- قوله تعالي: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ» «3».

9- قوله تعالي: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا» «4».

10- قوله تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «5».

فالروح الذي هو خلق أعظم من الملائكة سبب وواسطة إلهية لنزول الملائكة وعروجها.

الطائفة الرابعة: إسناد الخلق والتخليق إلي بعض المخلوقات:

1- قوله تعالي: «أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ» «6».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 289

فأُسند الخلق إلي الأيدي الإلهية وهي القدرة، إذ لا شك أن اللَّه تعالي لا يد جسمانية له، فيده قدرته وتصرّفه المخلوق له الخارج عن الذات المقدّسة، وهذه اليد المخلوقة تعمل وتخلق الأنعام بالمباشرة.

2- قوله تعالي: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَي* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّي» «1».

فالتسبيح في هذه الآية الكريمة أسند إلي الإسم، و (الذي) وصف للمضاف إلي الربّ وهو الاسم، فالإسم هو الذي خلق فسوّي وقدّر فهدي، والإسم غير المسمّي قائم به ومخلوق من مخلوقاته، كما جاء ذلك في سورة الرحمن في قوله تعالي: «وَيَبْقَي وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإْكْرَامِ» «2»

، فالجلال والإكرام وصف لوجه الربّ لا لنفس الربّ، وهو مخلوق من المخلوقات وآية يتوجّه بها إلي اللَّه عزّ وجلّ، والشاهد علي المغايرة ما جاء في آخر سورة الرحمن، حيث جعل وصف الجلال والإكرام صفة للربّ لا للوجه، حيث قال تعالي: «تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإْكْرَامِ» «3»

، وليس المراد من الاسم والوجه في الآية المباركة جزء الذات الجسماني، كما توهّم ذلك المجسّمة والحشوية، تعالي اللَّه عن ذلك علواً كبيراً، بل المراد منه الآية الكبري الدالّة علي عظمة اللَّه عزّ وجلّ والقائمة الوجود به، وقد أطلق علي

البيت الحرام والكعبة أنهما وجه اللَّه تعالي الذي يتوجّه به إليه، كما في قوله عزّ وجلّ: «وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» وقال تعالي أيضاً: «أَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» مما يدلّل علي أن البيت الحرام أحد الوجوه والآيات الكبري التي يتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ بها، وكذلك

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 290

الأنبياء، حيث أطلق علي موسي وعيسي عليهما السلام أنهما وجيهين عند اللَّه تعالي، كما تقدّم أنهما كلمات اللَّه وأسمائه.

3- قوله تعالي: «وَرَسُولًا إِلَي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَي بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «1».

4- قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَي النَّاسَ جَمِيعًا» «2»

، فهنا أسند تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتي أي إحيائهم إلي القرآن الكريم.

الطائفة الخامسة: وهي التي عُبّر فيها بالمُلك، وأن اللَّه تعالي أملك كثيراً من الأمور لمخلوقاته الشريفة من دون أن يكون هذا التمليك عزلي تفويضي، بل كلّما تلقي المخلوق من باريه فيضاً أكثر ومرتبة أعلي وأشرف في الوجود كلّما كان أكثر فقراً إلي اللَّه عزّ وجلّ من غيره، ومن ثم كان الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله أعبد الخلائق إلي اللَّه تعالي، لأنه أكثرهم فقراً إلي اللَّه عزّ وجلّ، كما أثر ذلك عنه صلي الله عليه و آله حيث كان يقول: (الفقر فخري)، وإليك بعض تلك الآيات في المقام:

1- قوله تعالي: «أَمْ يَحْسُدُونَ

النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 291

والملك العظيم الذي أعطي لآل إبراهيم هو الإمامة، ولم يُعبّر عن غير الإمامة بالملك العظيم.

2- قوله تعالي: «قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَايَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» «1».

3- قوله تعالي: «وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا» «2».

4- «وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ» «3».

5- «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا» «4».

6- «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَي كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» «5».

والملك في هذه الآية ليس خاصّاً بالملك الأرضي، بل هو عامّ شامل لمطلق النشآت.

7- «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ» «6»

، فوصف اللَّه عزّ وجلّ خازن النيران الملك الموكّل بالنار بمالك؛ لأنه ملّكه القدرة علي تدبير النيران.

8- «وَالْمَلَكُ عَلَي أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ» «7»

، والعرش هو مقام القدرة واللَّه تعالي أقدر أربعة من الأوّلين وأربعة من الآخرين

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 292

علي حمله بلا تفويض.

9- قوله تعالي: «وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ» «1».

10- قوله تعالي: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ» «2».

11- «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَّكْفِيَكُمْ أَن يُّمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ» «3».

12- «يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» «4».

الطائفة السادسة: ما ذكر فيها نسبة الإهلاك إلي نفسه تعالي وإلي بعض مخلوقاته.

1- قوله تعالي: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَي وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» «5».

2- «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ» «6».

3- «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا

بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ» «7».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 293

4- «وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَي قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ» «1».

5- «فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا» «2».

الطائفة السابعة: إسناد تدبير بعض المخلوقات عن طريق الرياح:

1- قوله تعالي: «وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ» «3».

2- «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا» «4».

3- «وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» «5».

4- «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ» «6».

5- «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا» «7».

والحاصل: إنّ نظام الخلقة في السنّة الإلهيّة نظام الأسباب والمسبّبات، كما نصّ علي ذلك متواتر آيات القرآن الكريم، وما ورد من روايات الفريقين «أبي اللَّه أن يجري الأمور إلّابأسبابها»، وذلك لأن الأمور ذواتها متقوّمة بالأسباب في هويتها، فهم يجهلون نظام الخلقة والمخلوقات.

*****

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 295

خاتمة في: … ص: 295

أ- الروايات الواردة في مشروعية التوسّل والتشفّع والتبرّك: … ص: 295

الروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً، نشير إلي بعض ما ورد منها في الكتب السنّية:

1- ما أخرجه البخاري في صحيحه عن الجعيد بن عبد الرحمن قال:

(سمعت السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فقالت:

يارسول اللَّه إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة وتوضّأ فشربت من وضوئه) «1».

2- كذلك روي البخاري في صحيحه عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال:

(رأيت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في قبّة حمراء من أدم، ورأيت بلالًا أخذ وضوء رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ورأيت الناس يتبدّرون ذاك الوضوء، فمن أصاب منه شيئاً تمسّح به،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 296

ومن لم يصب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه) «1».

3- وأخرج مسلم في صحيحه عن أنس قال: (لقد رأيت رسول

اللَّه صلي الله عليه و آله والحلّاق يحلقه وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلّافي يد رجل) «2».

قال النووي في شرحه لصحيح مسلم تعليقاً علي مثل هذه الروايات: (وفي هذه الأحاديث بيان بروزه صلي الله عليه و آله للناس وقربه منهم … وإجابته من سأله حاجة أو تبريكاً بمسّ يده وإدخالها في الماء كما ذكروا، وفيه التبرّك بآثار الصالحين وبيان ما كانت الصحابة عليه من التبرّك بآثاره صلي الله عليه و آله وتبرّكهم بإدخال يده الكريمة في الآية وتبرّكهم بشعره الكريم وإكرامهم إياه أن يقع شي ء منه إلّافي يد رجل سبق إليه) «3».

إذن هذه الشواهد وغيرها كاشفة عن أن سيرة المسلمين منذ الصدر الأول كانت قائمة علي التبرّك بما يتصل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، من دون ردع ونهي، وهذا دالّ علي مشروعية ما كان يأتي به الصحابة، وقلنا أن التبرّك يجتمع مع التوسّل والاستغاثة في ماهية واحدة وهي التوسيط، فالتبرّك طلب البركة ونوع توسّل واستشفاع بما يرتبط بالأولياء والأوصياء والحجج من أشياء.

4- وفي الجامع الصغير للسيوطي: (غبار المدينة شفاء من الجذام) «4»، وقال

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 297

المناوي في فيض القدير بعد نقل مثل هذه الروايات: (قال السمهودي: قد شاهدنا من استشفي به منه وكان قد أضرّ به فنفعه جدّاً) «1».

5- أخرج الحاكم في المستدرك عن عثمان بن حنيف أن رجلًا ضرير البصر أتي النبيّ صلي الله عليه و آله فقال: يارسول اللَّه علّمني دعاءً أدعو به يردّ اللَّه عليّ بصري، فقال له: قل: «اللّهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك نبيّ الرحمة، يامحمّد إني قد توجّهت بك إلي ربّي، اللّهم شفّعه فيّ وشفّعني في نفسي» فدعا بهذا الدعاء، فقام وقد أبصر

«2».

6- روي البيهقي في خبر صحيح إنه في أيام عمر جاء رجل إلي قبر النبيّ صلي الله عليه و آله فقال: يامحمّد استسق لأمتك، فسقوا «3».

7- أخرج النسائي عن عبداللَّه بن عمرو قال: سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، وصلّوا عليّ، فإنه من صلّي عليّ صلاة صلّي اللَّه عليه عشراً، ثم سلوا اللَّه لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد اللَّه، أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة» «4».

8- روي مسلم عن عائشة عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «ما من ميّت تصلّي عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلّهم يشفعون له إلّاشفّعوا فيه» «5».

9- روي مسلم أيضاً عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم علي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 298

جنازته أربعون رجلًا، لا يشركون باللَّه شيئاً إلّاشفّعهم اللَّه فيه» «1»

.10- ما أخرجه الطبراني وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «إذا خرج الرجل من بيته إلي الصلاة فقال: اللّهم إني أسألك بحقّ السائلين عليك وبحقّ ممشاي، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلّاأنت، وكّل اللَّه عزّ وجلّ به سبعين ألف ملك يستغفرون له، وأقبل اللَّه تعالي عليه بوجهه حتي يقضي صلاته» «2».

11- كذلك ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «من سرّه أن يوعيه اللَّه عزّ وجلّ حفظ القرآن وحفظ

أصناف العلم، فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف، أو في صحفة قوارير بعسل وزعفران وماء مطر ويشربه علي الريق، وليصم ثلاثة أيام، وليكن إفطاره عليه، فإنه يحفظها إن شاء اللَّه عزّ وجلّ، ويدعو به في أدبار صلواته المكتوبة:

اللّهمّ إني أسألك بأنك مسؤول لم يُسأل مثلك ولا يُسأل، أسألك بحقّ محمّد رسولك ونبيّك وإبراهيم خليلك وصفيّك وموسي كليمك ونجيّك وعيسي كلمتك وروحك، وأسألك بصحف إبراهيم وتوراة موسي وزبور داود وإنجيل عيسي وفرقان محمّد صلي الله عليه و آله، وأسألك بكلّ وحي أوحيته وبكلّ حقّ قضيته وبكلّ سائل أعطيته، وأسألك بأسمائك التي دعاك بها أنبياؤك فاستجيب لهم، وأسألك باسمك المخزون المكنون الطهر الطاهر المطهّر المبارك المقدّس الحيّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 299

القيّوم ذي الجلال والاكرام، وأسألك باسمك الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي ملأ الأركان كلّها، وأسألك باسمك الذي وضعته علي السماوات فقامت، وأسألك باسمك الذي وضعته علي الأرضين فاستقرّت، وأسألك باسمك الذي وضعته علي الجبال فرست، وأسألك باسمك الذي وضعته علي الليل فأظلم، وأسألك باسمك الذي وضعته علي النهار فاستنار، وأسألك باسمك الذي يحيي به العظام وهي رميم، وأسألك بكتابك المنزل بالحقّ ونورك التام، أن ترزقني حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم وتثبّتها في قلبي، وأن تستعمل بها بدني في ليلي ونهاري أبداً ما أبقيتني ياأرحم الراحمين) «1».

12- أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن العباس عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنه قال:

«قال داود: أسألك بحقّ آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب» «2».

13- روي جمال الدين الزرندي الحنفي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنه قال: «إذا هالك أمر فقل: اللّهم صلِّ علي محمّد وآل محمّد اللّهم إني أسألك بحقّ

محمّد وآل محمّد أن تكفيني شرّ ما أخاف وأحذر، فإنك تكفي ذلك الأمر» «3».

14- أخرج الحاكم الحسكاني عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «لما نزلت الخطيئة بآدم وأُخرج من جوار ربّ العالمين، أتاه جبرئيل فقال: ياآدم ادع ربّك، قال: ياحبيبي جبرئيل وبما أدعوه؟ قال: قل: ياربّ أسألك بحقّ الخمسة الذين تخرجهم من صلبي آخر الزمان إلّاتبت عليّ ورحمتني، فقال:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 300

حبيبي جبرئيل سمّهم لي، قال: محمّد النبيّ وعليّ الوصيّ وفاطمة بنت النبيّ والحسن والحسين سبطيّ النبيّ، فدعا بهم آدم فتاب اللَّه عليه، وذلك قوله: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ» وما من عبد يدعو بها إلّااستجاب اللَّه له» «1».

15- وأخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك عن ابن عباس قال: «أوحي اللَّه إلي عيسي عليه السلام يا عيسي آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة ولا النار، ولقد خلقت العرش علي الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلّااللَّه محمد رسول اللَّه فسكن» قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. «2»

وقد تقدّمت هذه الرواية عن السيوطي في الدرّ المنثور وغيره بألفاظ أخري فراجع، وقد جاء فيها أن سبب جعل تلك الكلمات واسطة ووسيلة هو حفاوتهم وكونهم أحبّ الخلق للَّه عزّ وجلّ، كما تقدّم في قول إبراهيم عليه السلام «إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا».

ب- آراء أعلام السنّة في التوسّل: … ص: 300

1- قول مالك للمنصور العباسي الدوانيقي عندما سأله قائلًا: أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟: (ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلي اللَّه تعالي يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به) «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4،

ص: 301

2- قال أبو بكر تقي الدين الحصني الدمشقي الشافعي: (ومن أنكر التوسّل به والتشفّع به بعد موته وأن حرمته زالت بموته فقد أعلم الناس ونادي علي نفسه أنه أسوأ حالًا من اليهود، الذين يتوسلون به قبل بروزه إلي الوجود، وأن في قلبه نزغة هي أخبث النزغات) «1».

3- قال الحافظ تقيّ الدين السُبكي: (ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في كلّ شؤونهم ويرشدونهم إلي السنّة في الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعة في شي ء، ولم يعدّوهم في يوم من الأيام مشركين بسبب الزيارة أو التوسّل، كيف وقد أنقذهم اللَّه من الشرك وأدخل في قلوبهم الإيمان، وأول من رماهم بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية وجري خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودمائهم لحاجة في النفس) «2».

4- ما نقله المناوي في فيض القدير عن السُبكي مرتضياً له، حيث قال: (قال السبكي: ويحسن التوسّل والاستعانة والتشفّع بالنبيّ صلي الله عليه و آله إلي ربّه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف ولا من الخلف، حتي جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم، وابتدع ما لم يقله عالم قبله، وصار بين أهل الإسلام مثله) «3».

وهذه العبارة عن السُبكي وسابقتها تكشف عن اجماع الطوائف السنّية علي مشروعية التوسّل، ولم ينكر ذلك إلّاابن تيمية ومن جاء بعده.

5- قال السمهودي في وفاء الوفا نقلًا عن كتاب العلل والسؤلات لعبداللَّه بن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 302

أحمد بن حنبل: (قال عبداللَّه: سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ويتبرك بمسّه ويقبّله ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب اللَّه تعالي؟ قال: لا بأس به) «1».

6- كذلك عن إسماعيل بن يعقوب التيمي، قال: (كان ابن المنكدر يجلس

مع أصحابه وكان يصيبه الصمات، فكان يقوم كما هو ويضع خدّه علي قبر النبيّ صلي الله عليه و آله ثم يرجع، فعوتب في ذلك، فقال: إنه ليصيبني خطرة، فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبيّ صلي الله عليه و آله) «2».

نكتفي بهذا المقدار من الأقوال.

*****

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 303

خلاصة البحث … ص: 303

1- إنّ التوسّل والتوجّه والتشفّع والتبرّك والتشفّي وطلب قضاء الحاجات كلّها عناوين لطبيعة واحدة، وهي ضرورة الواسطة بين العبد وربّه.

2- إنّ التوسّل والتوجّه والتشفّع والتبرّك بأسماء وآيات وكلمات اللَّه وبأمر منه تعالي هو خالص التوحيد وليس شركاً ولا كفراً، بل عدم الانصياع لأمره تعالي بالتوجّه والتوسّل والتشفع بها لطلب القرب والزلفي إليه تعالي هو كفر واستكبار لأنه خروج علي أمره تعالي.

3- الذوبان وتمام الانصياع للوسائط والوسائل لطلب الزلفي إلي اللَّه تعالي هو عبادة للَّه لا للوسائط أو الوسائل لأنه ذوبان وانصياع في تفضيل أمر اللَّه تعالي وهو معني العبادة.

4- أن التوسّل شرط شرعي في قبول التوبة وسائر العبادات ونيل المقامات.

5- أن التوسّل ضرورة عقلية وتاريخية وأديانية وقرآنية وروائية.

6- أن الوسائط المرفوضة في القرآن الكريم هي الوسائط المقترحة من قبل العبيد دون الوسائط المنصوبة من اللَّه عزّ وجلّ.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 304

7- أن من الأسباب المهمّة في إنكار التوسّل القول بالتجسيم أو نبوءة العقل.

8- أن الاعراض عن الآيات الإلهية وترك التوسّل بها موجب لحبط الأعمال والخسران في الدنيا والآخرة.

9- لا فرق بين التوسّل والشفاعة إلّاباللحاظ.

10- إن التوسّل والاستغاثة والتبرّك والاستشفاء من وادٍ واحد، وهي مصاديق متعدّدة لماهية واحدة.

11- إنّ التوسّل توحيد اللَّه الأعظم، وهو أبلغ أنواع التعظيم والخضوع للَّه تعالي.

12- إنّ جعل شي ء وسيلة يتضمّن في طيّات معناه عدم التأليه وأنّه واسطة لغيره وغيره هو الغاية، وأنما المشركون أشركوا

لأنهم اقترحوا الوسيلة إلي اللَّه تعالي من مل ء إرادتهم وتحكيمها علي إرادة اللَّه، فجعلوا لأنفسهم صلاحيات الألوهية.

13- إن اللَّه تعالي غاية الغايات وليس وسيلة كي يتوسّل به مباشرة، فمن يجعل اللَّه وسيلة لغاية غيره يكون مشركاً.

14- إنّ التوسّل بالوسيلة هو حقيقة معتقد الشهادة الثانية والثالثة وحقيقة النبوّة والرسالة والولاية.

15- إنّ التوسّل من أعظم أبواب العبادات والقربات إلي اللَّه تعالي.

*****

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 305

ثبت المصادر … ص: 305

1- القرآن الكريم

2- الصحيفة السجادية

الإمام زين العابدين، مؤسسة الإمام المهدي، ط 1، 1411 ه ق.

3- فقه الرضا

علي بن بابويه القمي، مؤسسة آل البيت، ط 1- 1406 ه.

4- المحاسن

البرقي، دار الكتب الإسلامية.

5- كمال الدين وتمام النعمة

الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي، 1405 ه.

6- التوحيد

الشيخ الصدوق، جماعة المدرسين، 1387 ه.

7- معاني الأخبار

الصدوق، النشر الإسلامي، 1361 ه.

8- تفسير القمي

علي بن إبراهيم القمي، مؤسسة دار الكتاب، ط 3- 9- 1404 ه.

10- تفسير فرات الكوفي

وزارة الثقافة والارشاد الإسلامي، ط 1- 11- 1410 ه.

12- الهداية الكبري

الحسين بن حمدان الخصيبي، مؤسسة البلاغ بيروت، ط 4- 1411 ه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 306

13- كتاب الغيبة

النعماني، مكتبة الصدوق- طهران.

14- علل الشرائع

الصدوق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1386 ه.

15- الكافي

محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 3، 1388 ه.

16- التبيان في تفسير القرآن

الطوسي، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1409 ه.

17- مجمع البيان في تفسير القرآن

الطبرسي، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 1415 ه.

18- وسائل الشيعة

الحر العاملي، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، ط 2، 1414 ه.

19- تفسير العياشي

محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.

20- الوسيلة إلي نيل الفضيلة

ابن حمزة، مكتبة المرعشي النجفي، قم، الطبعة الأولي 1408 ه.

21- تأويل الآيات

السيد شرف الدين الاسترآبادي، مدرسة الامام المهدي- قم، ط 1- 1407 ه.

22- المقنع

الصدوق،

مؤسسة الإمام المهدي، قم، 1415 ه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 307

23- الخصال

الصدوق، جماعة المدرسين، قم، 1403 ه.

24- روضة الواعظين

الفتال النيسابوري، منشورات الرضي، قم.

25- تهذيب الأحكام

الشيخ الطوسي، دار الكتب الإسلامية، ط 4، 1407 ه.

26- النهاية

الشيخ الطوسي، دار الأندلس، بيروت.

27- كفاية الأثر

الخزاز القمي الرازي، بيدار، قم، 1401 ه.

28- الأمالي

الشيخ الطوسي، دار الثقافة، قم، ط 1، 1414 ه.

29- الاحتجاج

الطبرسي، دار النعمان، النجف الأشرف، 1386 ه.

30- البرهان في تفسير القرآن

السيد هاشم البحراني، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 1419 ه.

31- الأمالي

الصدوق، مؤسسة البعثة، ط 1، 1417 ه.

32- بصائر الدرجات

محمد بن الحسن الصفار، مؤسسة الأعلمي- طهران، 1404 ه.

33- عدة الداعي

ابن فهد الحلي، مكتبة الوجداني- قم.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 308

34- كامل الزيارات

ابن قولويه، مؤسسة نشر الفقاهة، ط 1- 1417 ه.

35- مختصر بصائر الدرجات

الحسن بن سليمان الحلّي، المطبعة الحيدرية، النجف، ط 1، 1370 ه.

36- الغدير

الأميني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1379 ه.

37- شرح احقاق الحق

السيد المرعشي، مكتبة المرعشي النجفي، قم.

38- بحار الأنوار

محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط 2، 1403 ه.

39- عيون أخبار الرضا عليه السلام

الصدوق، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 1404 ه.

40- لسان العرب

ابن منظور، دار إحياء التراث، بيروت، ط 1، 1405 ه.

41- مسند أحمد بن حنبل

دار صادر، بيروت.

42- صحيح البخاري

دار الفكر، بيروت، 1401 ه.

43- صحيح مسلم

دار الفكر، بيروت.

44- مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

محمد بن سليمان الكوفي القاضي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، ط 1، 1412 ه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 309

45- سنن النسائي

دار الفكر بيروت، ط 1، 1348 ه.

46- تفسير القرآن العظيم

ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1412 ه.

47- البداية والنهاية

ابن كثير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1408 ه.

48- كتاب الدعاء

الطبراني، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1413 ه.

49- المستدرك علي الصحيحين

الحاكم النيسابوري،

دار المعرفة، بيروت، 1406 ه.

50- جامع البيان

ابن جرير الطبري، دار الفكر بيروت، 1415 ه.

51- الدر المنثور

جلال الدين السيوطي، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1365 ه.

52- الجامع الصغير

جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1401 ه.

53- فيض القدير

المناوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1415 ه.

54- شواهد التنزيل

الحاكم الحسكاني، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، ط 1، 1411 ه.

55- السيف الصقيل

الحافظ تقي الدين السبكي، مكتبة زهران.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 310

56- الشفا بتعريف حقوق المصطفي

القاضي عياض، دار الفكر، بيروت، 1409 ه.

57- وفاء الوفا

السمهودي.

58- نظم درر السمطين

الزرندي الحنفي، ط 1، 1377 ه.

59- كشف الغمة

الأربلي، دار الأضواء بيروت، ط 2 ص 1405 ه.

60- دفع الشبه عن الرسول والرسالة

تقي الدين الحصني الدمشقي الشافعي، دار إحياء الكتاب العربي، القاهرة، ط 2، 1418 ه.

61- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد

الهيثمي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 ه.

62- زاد المسير في علم التفسير

ابن الحوزي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1407 ه.

63- تحفة الأحوذي في شرح الترمذي

مبارك فوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410 ه.

64- ميزان الاعتدال

الذهبي، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1382 ه.

65- المعجم الكبير

الطبراني، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الثانية.

66- الطبقات الكبري

ابن سعد، دار صادر، بيروت.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 311

67- الجامع لأحكام القرآن

القرطبي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1405 ه.

68- فضائل مكة والسكن فيها

الحسن بن يسار البصري، مكتبة الفلاح، الكويت، 1400 ه.

69- معجم البلدان

ياقوت الحموي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1399 ه.

70- الأم

الشافعي، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1403 ه.

71- المجموع في شرح المهذب

النووي، دار الفكر، بيروت.

72- مغني المحتاج

الخطيب الشربيني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1377 ه.

73- مواهب الجليل

الحطّاب الرعيني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1416 ه.

74- حواشي الشرواني

عبدالحميد الشرواني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

75-

السنن الكبري

البيهقي، دار الفكر، بيروت.

76- الفصول المهمة

ابن الصباغ المالكي، دار الحديث، ط 1، 1422 ه.

77- فضائل الصحابة

أحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، بيروت.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 312

78- إملاء ما من به الرحمن

أبو البقاء العكبري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1399 ه.

79- فتح القدير

الشوكاني، عالم الكتب.

80- سبل الهدي والرشاد

الصالحي الشامي، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1، 1414 ه.

81- كنز العمال

المتقي الهندي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409 ه.

82- جلاء الأفهام

ابن قيم الجوزية، تحقيق محيي الدين ديب مستو، دار الكلم الطيب، دار ابن كثير، الطبعة الثالثة.

83- مناقب أمير المؤمنين

ابن المغازلي الشافعي.

84- تاريخ مدينة دمشق

ابن عساكر، دار الفكر، 1415 ه.

85- شرح نهج البلاغة

ابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية، ط 1، 1378 ه.

86- السقيفة وفدك

أبو بكر الجوهري البغدادي، شركة الكتبي، بيروت، ط 2، 1413 ه.

87- فتح العزيز في شرح الوجيز

عبد الكريم الرافعي، دار الفكر، بيروت.

88- سنن الدارقطني

علي بن عمر الدارقطني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417 ه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 313

89- روضة الطالبين

محيي الدين النووي، دار الكتب العلمية، بيروت.

90- فتح المعين

المليباري الهندي، دار الفكر، ط 1، 1418.

91- لسان الميزان

ابن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط 2، 1390 ه.

92- شعار أصحاب الحديث

محمد بن إسحاق الحاكم، دار الخلفاء، الكويت.

93- سنن أبي داود

السجستاني، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1410 ه.

94- كتاب المصنف

أبو بكر عبدالرزاق الصنعاني، المجلس العلمي.

95- الأذكار النووية

يحيي بن شرف النووي، دار الفكر، 1414 ه.

96- المعجم الأوسط

الطبراني، دار الحرمين، 1415 ه.

97- الإغاثة بأدلة الاستغاثة

حسن السقاف، مكتبة الإمام النووي، عمان، ط 1، 1410 ه.

98- عقد الدرر في أخبار المهدي المنتظر

عبد العزيز الشافعي المقدسي.

99- ينابيع المودة

القندوزي الحنفي، دار الأسوة، ط 1، 1416 ه.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.